ادعموا الإستنزاف العسكري بآخر سياسي
د. عصام نعمان
حتى مساء الاحد الماضي ، كان احد الترجيحات يشير الى إنجاز تسوية بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في محادثات القاهرة تصريحات نتنياهو التصعيدية اللاحقة خلخلت هذا الترجيح الذي ما لبث ان بدده زعمٌ اسرائيلي عن اطلاق ثلاثة صواريخ من غزة على بئر السبع "حماس" نفت علمها بإطلاق صواريخ على المستعمرة الإسرئيلية متوخيّةً إجهاض ذريعةٍ لفّقها العدو لتبرير استئناف العدوان لكن نتنياهو تجاهل نفي "حماس" وأفلت سلاح جوّه ليضرب ، متعمداً ، في غزة دار آل الدلو المكتظ بأهله والنازحين خمسة من آل الدلو استشهدوا على الفور ومعهم اثنتان من النازحين تبيّن انهما زوجة القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف وطفله الرضيع
عضو قيادة "حماس" موسى ابو مرزوق سارع الى كشف الحقيقة قال إن هدف الغارة اغتيال القائد الضيف تحديداً لو تمّ الإغتيال لكان نتنياهو اعتبره نصراً مدوّياً وكافياً لفرض تسوية على الفلسطينيين تناسب الكيان الصهيوني
إستئناف العدوان على غزة والقطاع عطّل محادثات القاهرة ثمة من يعتقد ان التعطيل سيمتد بضعة ايام الى ان تتمكن الولايات المتحدة ومصر من إعادة الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي الى حظيرة المحادثات لكن الناطق بإسم كتائب القسام ابو عبيدة جزم بأن لا عودة الى المحادثات على اساس المسار السابق ، وان القائد محمد الضيف هو الذي سيحدد متى يعود سكان المستعمرات في غلاف غزة الى منازلهم ، وان المقاومة فرضت حصاراً جوياً على مطارات "اسرائيل"
من الواضح ان المقاومة لن تقبل بعدما استأنف نتنياهو عدوانه الهمجي وهدد بحرب برية بأي تسوية لا تضمن ثلاثة مطالب اساسية : المحافظة على سلاح المقاومة ، ورفع الحصار وفتح المعابر ، وتأمين الاموال والقدرات والمتطلبات اللازمة لإعادة تعمير القطاع وإعماره كل ذلك من دون التخلي عن مطالب اخرى مهمة كالميناء البحري والمطار واطلاق الاسرى والمعتقلين وغيرها من المطالب التي يمكن التوافق بشأنها على جدول زمني مربوط بضمانات صارمة لبحثها وإقرارها
الإتجاه العام السائد في الوسط الحاكم كما في الرأي العام الإسرائيلي هو عدم تمكين المقاومة الفلسطينية من تحقيق اي مكسب بعد نجاحها في تفشيل مآرب نتنياهو العدوانية لذا يسعى الفريق الحاكم الى ممارسة المزيد من الضغط العسكري وما يرافقه من تقتيل وتدمير ظناً منه ان ذلك سيحمل الفلسطينيين على التراجع والقبول بتسوية تناسب "اسرائيل"
في المقابل ، ترى قيادة المقاومة ان لا سبيل الى إكراه القيادة الإسرائيلية على التراجع إلاّ بممارسة حرب استنزاف مكلفة بشرياً وإقتصادياً ، وان ذلك سيحمل بضع دول عربية واسلامية على تعديل موقفها ، سياسياً ومادياً ، لمصلحة الشعب الفلسطيني الامر الذي يساعد في ترفيع قضية فلسطين مجدداً الى مركز الصدارة في حياة العرب
الحقيقة ان كِلا الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي قادر على إستنزاف الآخر لكن يصعب ، سلفاً ، تحديد الطرف الذي سيصرخ من الألم أولاً ويتقبّل تالياً تسوية غير متناسبة "اسرائيل" لديها قدرات عسكرية ضخمة وقوة نارية هائلة لكن قائمة (بنك) اهدافها المرئية استُنفدت او كادت وما عاد بإمكانها ان تستمر في تقتيل المدنيين وتدمير العمران عشوائياً وهمجياً كما كانت تفعل خلال ايام العدوان الثلاثين الماضية فجرائم الحرب والإبادة التي ارتكبتها تكشّفت للرأي العام العالمي واصبح من الصعب تكرارها من دون تعريض شرعيتها السياسية ، المفلومة اصلاً، الى خسارة ثقيلة لا يمكن تعويضها ، كما اصبح من الصعب ايضاً حمل الولايات المتحدة وسائر دول الغرب الاطلسي على تبريرها وتحمّل وطأة تداعياتها كل ذلك يحدّ من قدرتها على تطويل حربها ضد القطاع كما يحدّ من شهيتها للتقتيل والتدمير الهمجيين
المقاومة لديها ميزات وقدرات تساعدها في حربها الإستنزافية ضد "اسرائيل" فشعبها ابدى صبراً وجَلَداً وصموداً اسطورياً ، وبنيتها العسكرية تحت الارض استعصت على العدو الإسرائيلي رغم الآف اطنان الصواريخ والقذائف التي اطلقها في حربه الهمجية ، ومخزونها من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى ينطوي على قدْر من التنوع والوفرة يمكّنها من شن حرب استنزافٍ طويلة الامد ما يحمل "اسرائيل" ، قيادةً وجمهوراً ، على وقف حرب الإبادة التي تشنّها بلا رحمة
غير ان خيار الإستنزاف يبقى مع ذلك مسألة صعبة لا يمكن توفير اجابة شافية عن مردودها في الوقت الحاضر لذلك يقتضي ان تدعم المقاومة حربها العسكرية الإستنزافية بحرب سياسية استنزافية ايضاً حرب الإستنزاف السياسية تتكامل تثوير الضفة الغربية وعرب فلسطين المحتلة العام 1948 والشتات الفلسطيني في عالم العرب كما في العالم الاوسع تثوير هؤلاء سيؤدي ،غالباً ، الى تحريك الجماهير العربية على مستوى الوطن الكبير ، وتوليف تعبئة شعبية مناهضة لسياسة دول الغرب الاطلسي عموماً والولايات المتحدة خصوصاً ، وتفعيل مقاطعة شعبية واسعة لمنتجاتها هذا التثوير الشامل للمنطقة سيشكّل رافعة سياسية ضاغطة على الولايات المتحدة وحلفائها الاقليميين ويحملها ، عاجلاً او آجلاً ، على تقليص إنحيازها ، الاعمى احياناً ، لـِ "اسرائيل" والتوجّه تالياً نحو مخرج للأزمة لن يكون ، غالباً، على حساب حقوق العرب والفلسطينيين
اكثر من ذلك ، على قيادة المقاومة الفلسطينية كما على حلفائها ان يضعوا في حسبانهم ان عملية التثوير ضد "اسرائيل" وحماتها ستلقى تجاوباً ودعماً لدى الجماهير العربية التي باتت تدرك ان حماة الكيان الصهيوني هم انفسهم ، الى امس قريب، دعاة وحماة ومملو حركات "الإسلام الجهادي " ، ولا سيما ذراعه الاطول والاخطر ، تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش"، الذي بات يسيطر على محافظات غرب العراق ومحافظات شرق سوريا من الحدودالتركية –العراقية – السورية في الشمال الى الحدود السعودية – الاردنية –السورية – العراقية في الجنوب ، وقد عقد العزم على التوسع جنوباً الى الاردن والكويت والسعودية ، هذا فضلاً عن تحركه اخيراً الى شرق لبنان وسيطرته على بلدة عرسال الحدودية المتصلة بمنطقة القلمون السورية حيث القتال ما زال مستعرّاً
الى ذلك ، إن تحريك جماهير العرب والمسلمين ضد "اسرائيل" وضد تنظيم "داعش" واخواته من شأنه تكوين مناخ وعي متجدد يتخطى العصبيات والتشنجات والإنقسامات التي تضرب المجتمعات العربية وتشلّ فعالياتها وقدراتها وتساعد الأعداء بمختلف تلاوينهم في النيل من الامة على مدى انتشارها الجغرافي والديمغرافي