نشرت بجريدة القدس العربي والبناء
تاريخ 22/8/2016
لا خصوصية ولا حصانة في السياسة ؟
د. عصام نعمان
اوحى لي أحدُ ، ولا اقول آخر ، كشوفات مؤسس موقع "ويكيليكس" جوليان اسانج بخواطر وجدتُ انه من المناسب كشفها ايضاً. كشْفُ اسانج المقصود يتمحور حول المرشحة الرئاسية الاميركية هيلاري كلينتون . اهم "الأسرار" المكشوفة خمسة:
· ان ادارة باراك اوباما ، اثناء ولاية هيلاري كلينتون كوزيرة للخارجية ، استخدمت ليبيا لنقل السلاح الى سوريا.
· هيلاري لها علاقات بروسيا اكثر من المرشح الجمهوري دونالد ترامب.
· ان شركة "لافارج" الفرنسية متورطة في سوريا ، وتحقيق صحيفة "لوموند" الفرنسية اثبت ان الشركة دفعت لـِ "داعش" في سوريا ، وان اموال الشركة ذهبت في العامين 2015 و 2016 الى مؤسسة كلينتون.
· وجود علاقة قوية بين مؤسسة كلينتون والسعودية ، وان المملكة النفطية "هي الأرجح اكبر جهة دولية ممولة لهذه المؤسسة ، وبإمكانك ان ترى سياسات كليننتون في ما خصّ تصدير السلاح كانت تميل لصالح السعودية".
· ان "بعض الديمقراطيين يخشون مفاجأة سيئة قد تنفجر في تشرين الاول/اكتوبر المقبل بحملة مرشحتهم الرئاسية".
هيلاري كلينتون متعودة على تلقّي المفاجآت والفضائح "السرية" المدوّية. موافقة زوجها ، الرئيس السابق ، لسكريتيرته المتمّرنة في مكتبه بالبيت الأبيض معروفة ، وقد غفرت له هيلاري فعلته تلك. لكن ترامب وانصاره الجمهوريين ، وربما غيرهم ايضاً ، وبصرف النظر عن صحة ما يكشفه اسانج عن هيلاري او عدم صحته ، لن يغفروا لها ما فعلت وسيستعملونه ضدها بالتأكيد.
المهم ان المعرفة قوة ، وان التقدّم الهائل في تكنولوجيا المعلومات قد مكّن اسانج وغيره على الإحاطة بكمٍّ هائل من الوقائع والاسرار والخفايا والخصوصيات في جميع الاوساط والحقول والبلدان ، وخصوصاً تلك المعلومات التي "تخص" اهل السياسة ويحرصون غالباً على ابقائها طيّ الكتمان.
يتأسس على هذه الحقيقة ان لا خصوصية مع تقدّم تكنولوجيا المعلومات والتلصص والتجسس والتنصّت ، ولا حصانة تالياً لجميع من يتخذ قراراً او يرتكب مخالفة او يقوم بعمل يعتبره الغير مضراً به ايّاً كانت اسبابه ومبرراته .
لإنعدام الخصوصية وتهافت الحصانة مفاعيل وتداعيات لافتة وخطيرة في الشؤون الخاصة كما في الشؤون العامة.
في الشؤون الخاصة ، اصبح كل شخص مكشوفاً امام الآخرين في كل زمان ومكان . معنى ذلك ان عليه ان يلتزم بدقة متناهية ما يعتبره المجتمع الاهلي والدولة واجهزتها تشريعات وانظمة وضوابط واجبة الإحترام والتنفيذ تحت طائلة المسؤولية المدنية والجزائية ، او ان يضيق الناس ذرعاً بها فيتمردون عليها بأشكال متعددة الامر الذي يفضي الى احد امرين : فوضى شاملة تعيد الإنسان الى العصر البدائي الوحشي ، او الى اجتراح نظام او انظمة جديدة للحياة والسلوك والعمل او الإمتناع عن العمل على نحوٍ لا يمكن التنبؤ سلفاً بما يمكن ان يكون عليه.
في الشؤون العامة ، اصبحت كل سياسة او خطة او موقف مكشوفاً امام الآخرين، ولاسيما امام الأعداء . لا يحضرني الآن اسم رئيس احد مراكز الأبحاث الاستراتيجية الاميركية الذي نشرت له قبل سنوات مجلةُ "فورن افيرز" الرصينة دراسة يؤكد فيها بأن الصين قادرة على اجهاض اي حرب تشنها عليها اميركا قبل ان تبدأ. كيف ؟ بقدرتها على الإحاطة بمضامين كل حواسيب Computers وزارة الدفاع "البنتاغون" والجيش الاميركي بما هي خزائن السياسات والخطط والمخططات...
قد يقول قائل ان قدرات الدول على الإحاطة بكل ما تخطط له إحداها ضد الاخرى تحول دون اندلاع الحروب وتخدم تالياً قضية السلام . ربما يكون هذا الإستشراف او الإستخلاص او التوقع صحيحاً بما يخصّ العلاقات او الخصومات بين الدول ، ولا سيما ما يتعلق منها بمسائل الحروب. لكن ما انعكاسات ذلك على قضايا الامن الداخلي ، امن الناس الشخصي وامن المؤسسات المولجة امور الامن والسلامة العامة ؟ اذا كان في وسع اللصوص والمجرمين الإحاطة بكل قدرات وخطط وتحركات قوى الشرطة والامن الداخلي ، فهل يبقى شخص او جماعة او مؤسسة بمنجاة من هؤلاء اللصوص والمجرمين؟
الى ذلك ، ادّى التطور الهائل في تكنولوجيا المعلومات وتطبيقاتها العملية وسهولة التواصل بين الافراد والجماعات من خلال اجهزة التواصل والإتصالات والمواصلات الى نشؤ ظاهرة مذهلة هي تعددية الرأي المليونية بل البليونية (المليارية). ان سهولة نقل التفكير الى تعبير وبالتالي الى اراء ومواقف من جهة، ومن جهة اخرى سرعة تغيّرها وتبدّلها قد يؤدي الى نشؤ ظاهرة اخرى بالغة الخطورة هي صعوبة ، وربما استحالة ، وصول الناس ، افراداً وجماعات ومواطنين في دول ومؤسسات ، الى قرارات جماعية تمثل الغالبية . حتى لو امكن التوصل الى قرار يمثل الغالبية او الاكثرية فإن الاكثرية تبقى عرضة دائماً الى التغيّر والتبدّل بسرعة قياسية.
ظاهرة تبدّل الاكثرية بسرعة قياسية قد تؤدي بدورها الى نشؤ ظاهرة اخرى ، لافتة وخطيرة ايضاً ، هي تعقيد مسألة الحكم بمعنى ممارسة السلطة ، اذْ سيصعب على "اهل" السلطة ممارستها وسط كمٍّ هائل من الاراء والمواقف ، وتبدّل قياسي فيها، وصعوبة التوصّل الى غالبية ثابتة بشأنها ، وتراخي الضوابط الامنية نتيجةَ اختراقها السهل من قبل محترفي كشفها والمتمردين عليها لغايات دنيئة.
كيف الخروج من هذه الحال المستقبلية التي تبدو خطيرة ؟
لا مخرج جاهزاً في الحاضر والمستقبل المنظور، ذلك لأن البشرية في حال تطوّر وتغيّر متواصلين ، وما نقع عليه او نمارسه في الحاضر هو نتاج مئات الآف القرون والاجيال من حياة البشرية.
الوجود والحياة كفيلان ، من خلال التجربة والخطأ والتصويب ، بإبتداع مخارج وحلول وتسويات لما تكابده البشرية من ازمات ومشاكل صعوبات على مرّ التاريخ.