نشرت بجريدتي "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 4/1/2016
جديد العام 2016 قديم : الحرب الاهلية مستمرة ...
د. عصام نعمان
لا جديـد يحملـه العـام الجديـد الى عالــم العرب بل المزيــد مــن الشيء نفسه : الحـرب الاهليـة . هذه حال العرب ، قولاً وفعلاً ، مذّ وضعـت الحـرب العراقية - الإيرانية اوزارها العام 1988 . قبلها عانى العرب ، كما جيرانهم ، حروباً بين دولهم . بعدها اصبحت الحروب ليس بين دولهم بل فيها .
المؤرخ الصهيوني المعروف برنارد لويس كان نبّه قادة الولايات المتحدة واسرائيل الى خاصيّة التعددية الاثنية والقبلية والدينية والمذهبية التي تنطوي عليها بلاد العرب وتنغرز عميقاً في نسيجها الاجتماعي ، فكان ان اقتنع "المحافظون الجدد" ، الذين سيطروا على مواقع حساسة في ادارة جورج بوش الابن ، بجدوى استغلالها وسيلةً للتفريق والتفكيك والتفتيت.
قبل برنارد لويس كان المؤرخ المصري شارل عيساوي قد لاحظ ان النسيج الاجتماعي في بلاد العرب تعرّض على مرّ التاريخ لتدخلات قوى خارجية امعنت فيه تمزيقاً وتجزيئاً على نحوٍ انتج ظاهرة لافتة هي خضوع العرب على امتداد الف سنة من تاريخهم الى سلطة حكام اجانب.
مع اندلاع اضطرابات ما يسمّى "الربيع العربي" العام 2011 وصعود حركات "الإسلام السياسي" ، ولا سيما تنظيمات الإرهاب التكفيري ، إنهار النظام العربي وتهاوت معه الدولة القُطرية في بلدانٍ تحوّلت اضطراباتها الداخلية حروباً اهلية . أليست هذه حال سوريا والعراق والسودان وليبيا واليمن ؟ أليست اقطار اخرى كلبنان وتونس والجزائر والبحرين ومصر مهددة ايضاً بأن تتحوّل اضطراباتها الامنية حروباً أهلية ؟
هكذا يجد العرب انفسهم اليوم ، ولاسيما عرب المشرق ووادي النيل ، امام ثلاثة تحديات بالغة الخطورة : التحدي الصهيوني العنصري ، والتحدي الإرهابي التكفيري ، وتحدي تداعي الدولة القُطرية وتواصل الحروب الأهلية.
الى ذلك ، رافقت الحروب الأهلية وزادتها اضطراماً صراعاتٌ جيوسياسية واقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا من جهة ، ومن جهة اخرى بين كلٍ منهما وتركيا وايران ، ناهيك عن اسرائيل التي حاولت وتحاول الافادة من الإشتباكات الاقليمية المستعرة لإستكمال مشروعها التوسعي الإستيطاني.
يبدو ان احتدام هذه الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية ارهق اللاعبين المشاركين فيها وحمَلَ صغارهم ، كما الكبار الذين يدعمون بعضهم ويستنزفون بعضهم الآخر ، على البحث عن مخارج منها. في هذا السياق ، جرت اتصالات ونُظمت مؤتمرات للتوفيق بين اطراف المعارضة السورية ، الكثيرة التوالد والتصارع ، بغية تأليف وفد موحّد يمثّلها في مفاوضات مرتقبة تجري هذه السنة في جنيف 3-.
من الواضح ان جنيف-3 (في حال انعقاده) سيكون معنيّاً ، بالدرجة الاولى، بمواجهة تحدي الإرهاب كونه يهدد مصائر اللاعبين الصغار كما مصالح اللاعبين الكبار . لكنه لن يكون معنيّاً بتاتاً بمعالجة التحدي الصهيوني العنصري التوسعي ، كما لن يتصدى لتحدي تداعي الدولة القطرية إلاّ في اضيق الحدود كالنواحي الإجرائية المطلوبة لوقف اطلاق النار واقرار الترتيبات اللازمة لإحياء الادارات والأجهزة الحكومية المسؤولة عن الامن وتأمين المتطلبات الحياتية الاولية للناس.
لا غلوّ في القول إن غياب الدولة او تغييبها عامل رئيس في هزائم العرب العسكرية وقصورهم السياسي وتخلّفهم الاقتصادي والاجتماعي وفي تواصل حروبهم الأهلية وانحدارهم الى حال الإنحطاط المزري . فهل يجوز ، والحال هذه ، ان يتركوا للقوى الأجنبية امرَ تقرير مصيرهم ومستقبلهم كما فعلوا سحابةَ قرون عشرة في ماضيهم غير التليد ؟ ثم ، هل يجوز ان تبقى القوى الوطنية الحيّة غائبة او مغيّبة او مستنكفة عن الإضطلاع بمسؤوليتها التاريخية في تدارس ازمتنا المزمنة وحروبنا الأهلية المتواصلة بغية اجتراح الحلول والمناهج والآليات والمؤسسات الكفيلة بإخراجنا منها ووضع مجتمعاتنا على طريق النهوض والبناء والتنمية ؟
ثمة حاجة وطنية استراتجية الى ان تبادر القوى الحيّة ، افراداً وجماعات ، الى الإنخراط الجدّي ، العميق والمتواصل في مسارٍ فكري واجرائي متكامل ، في كل قُطر كما على صعيد الأمة ، من اجل اجتراح نهجٍ وحركة نهضويين يكفلان إخراج العرب من انحطاطهم بمباشرة مهمة بناء الدولة (التي ما زالت غائبة او مغيّبة ) في كل قطرٍ من اقطارهم ، دولة مدنية ديمقراطية على اساس حكم القانون والعدالة والتنمية.
لا نهاية للحروب الاهلية ، ولا أمن ، ولا استقرار ، ولا تنمية ، ولا ازدهار، ولا اكتناه للعلم والتكنولوجيا ، ولا خلق وابداع ، ولا بالتالي عدالة وطمأنينة خارج اجتماع سياسي تؤطره وتحميه وترتقي به دولة مدنية ديمقراطية مبنيّة على اساس المواطنة والمساواة امام القانون وفي الفرص.
القوى الحيّة مدعوةٌ بلا ابطاء ، محلياً وعلى مستوى الأمة ، الى مباشرة النهوض بمهامها الإستراتيجية سالفة الذكر ، والخروج الى الرأي العام ، وخصوصاً الى مجتمع اهل القدرات والكفاءات والخبرات ، بحلولٍ ومناهج وآليات ومؤسسات كفيلة بوضعنا على طريق النهوض والبناء والانجاز.
الى ذلك ، لن يفوت اهل النخبة الملتزمة في القوى الحيّة التنبّه الى خمس مهام استراتيجية تتوجب مراعاتها وبالتالي تحقيقها تدريجياً في سياق المشروع النهضوي:
اولاها ، اعتماد الديمقراطية في ادارة التنوع الاجتماعي واعتبار الوحدة الوطنية داخل الأقطار العربية القاعدة الاساس في مواجهة مخططات التفكيك والتفتيت والتقسيم والشقاق المذهبي.
ثانيتها ، بناءُ كتلة تاريخية في كل قطر وعلى مستوى الأمة من جماهير وكوادر التيارات والقوى الحيّة صاحبة المصلحة في إقامة الدولة المدنية الديمقراطية شرط ٌ لازم لمواجهة التحدي الصهيوني العنصري والتحدي الإرهابي التكفيري ولتحقيق المشروع النهضوي على الصعيدين القطري والعربي .
ثالثتها ، اعتبار مواجهة اسرائيل وحلفائها الدوليين والاقليميين والمحليين ضرورة سياسية واقتصادية وحضارية لضمان هزيمة القوى الخارجية العدوانية وإستكمال الإستقلال الوطني والقومي وتعزيز الارادة الشعبية.
رابعتها ، ضرورة تكامل الامة على المدى الطويل في دولة اتحادية (فدرالية او كونفدرالية) لتأمين متطلبات البقاء والنماء وتوفير الشروط السياسية والاقتصادية للتعايش والمنافسة والتقدم في عصر التكتلات القارية ، على ان تكون البداية إقامة تكتل اقتصادي عربي، او سوق عربية مشتركة.
خامستها ، مباشرة التجدد الحضاري بنقد ثقافتنا الماضوية والانفتاح على ثقافة العقل والحرية والديمقراطية والعلم والتنمية.
آمل ان تُسهم هذه العجالة في توليد مناقشة موسعة في الموضوع.