نشرت بجريدة"القدس العربي"
تاريح 18/12/2017
نزوات ترامب تتبدّد
مع إنحسار سطوة اميركا في العالم ...
د. عصام نعمان
كثيرون في الولايات المتحدة يرفضون ان يقرنوا إسم ترامب بلقب "الرئيس" . يدعونه دونالد ترامب فقط . بعضٌ من هؤلاء يتناوله بالشتيمة والاوصاف المهينة ، فلا يتورع هو عن الردّ بالمثل. صحيفة "يو أس آي توداي" اعتبرته "غير اهل حتى لـِ تنظيف المراحيض في مكتب الرئيس السابق باراك اوباما او تلميع حذاء الرئيس السابق جورج بوش الابن". هذه الصحيفة المعروفة بتجنّبها استخدام مفردات قاسية فعلت ذلك تحت وطأة ما اسمته إنحطاطاً متزايداً في تغريدات ترامب الفظّة ، ومنها زعمه ان السيناتورة الديمقراطية كريستين جيليبراندا كانت مستعدة لإقامة علاقات جنسية من اجل تمويل حملتها الإنتخابية !
دولة عظمى يديرها رئيسها بتغريدات بل بنزوات يومية على "تويتر"، ويتخاطب سياسيوها بأقذع الألفاظ في وسائل الاعلام ، هل يمكن ان تؤخذ على محمل الجدّ عندما يعلن هذا الرئيس او احد مسؤوليها موقفاً او سياسةً يعتزم انتهاجها ؟
يثير هذا الوضع الغريب داخل اميركا نفسها كما في علاقاتها مع الخارج ملاحظات وتساؤلات كثيرة ، ابرزها ثلاث :
أولاها ، ان الولايات المتحدة تجد نفسها لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية في عالم لم يعد اميركياً ، بمعنى ان سيطرتها ونفوذها اصبحا في حال إنحسار مطّرد نتيجةَ نجاح دول كبرى ومتوسطة وحتى صغرى في تحرير ارادتها من سطوة ذلك العملاق الذي كان مستأسداً . ولعل ابلغ شاهد على ذلك العزلةُ التي تجد واشنطن نفسها فيها اليوم نتيجةَ قرار ترامب العدواني الإعتراف بالقدس عاصمةً لـ "اسرائيل" ونقل سفارته اليها . ذلك ان الدول العربية والإسلامية ، ودول الإتحاد الاوروبي ، وروسيا والصين ناهيك عن دول عدّة آسيوية واميركية جنوبية وافريقية جاهرت برفضها مخالفة ترامب القانون الدولي وقرارات الامم المتحدة .
ثانيتها ، إن اركاناً نافذين في الدولة الاميركية العميقة Deep State ووسائل الإعلام النافذة ابدت امتعاضاً وتبرماً بقرار ترامب المتهور كونه يحرم واشنطن ، بلا مسوّغ ، دورها التقليدي القديم كراعٍ ووسيط في الصراع العربي- الإسرائيلي.
ثالثتها ، ان نزوات ترامب ، من بين عوامل اخرى فاعلة ، وضعت الولايات المتحدة في وضع غير مسبوق من حيث مواجهة عدّة ازمات وتحديات كبرى في آن : تهويد القدس في وجه عالم العرب والمسلمين الساخطين ؛ مستقبل سوريا بعد اندحار "داعش" واخواته من جهة ومن جهة اخرى اشتداد ساعد الحكومة المركزية في دمشق واصرارها على تحرير المناطق القليلة الباقية خارج سيطرتها ما يؤدي الى استعادة سوريا وحدتها وسيادتها؛ انهيار المشروع الكردي الإنفصالي في العراق وارجحية انهياره في شمال سوريا ايضاً الامر الذي أفقد واشنطن احد افعل اسلحتها الاقليمية ؛ إخفاق السعودية وحلفائها في تطويع اليمن ووضعه تحت عباءة نفوذها والتداعيات الناجمة عن استمرار الحرب وما تتسبّب به من مجازر وتدمير ومجاعــة وامراض ؛ استقـواء اطــراف محور المقاومة ، سياسياً وعسكرياً ، الامر الذي اثــار قلــق "اسرائيل" مـن امكانيــة بنــاء جبهة مقاومـة لبنانية- سورية على طول حدودها مع لبنان وسوريا شماليّ فلسطين المحتلة ؛ امعان كوريا الشمالية في تحدي محاولات اميركا الرامية الى إحباط مشروعها النووي وخصوصاً بعد تمكّنها من النجاح في تجريب صواريخ بالستية يصل مداها الى الولايات المتحدة نفسها.
في غمرة هذه الازمات والتحديات ، ينبري ترامب الى افتعال ازمة جديدة مع ايران تصبّ مزيداً من الزيت على نار الصراع بينهما. ففي خطاب مفاجىء ألقته في قاعدة عسكرية بواشنطن ، استعرضت سفيرته في الامم المتحدة نيكي هايلي مجموعةً من بقايا ما زعمت انه صاروخ ايراني الصنع أُطلق من اليمن على مطار الرياض ما يشير ، في رأيها، الى قيام طهران بتسليح جماعة انصار الله في صنعاء وبالتالي تهديد الامن والسلم الدوليين . ولم تكتفِ هايلي بذلك بل اعلنت ايضاً اعتزام واشنطن بناء تحالف دولي يتصدى لإيران.
ما سرّ نزوة ترامب الجديدة ومآلها ؟
صحيح ان الدافع الاول لنزوة ترامب هذه هو تعويض تراجع قوته السياسية وتكاثر اعدائه وتقلّص عدد مؤيديه بين الناس وفي الكونغرس ، إلاّ ان اندفاعته الجديدة ضد ايران تأثرت ، بلا شك ، بما سبق بيانه من خسارات سياسية تكبدتها واشنطن في سوريا والعراق وفلسطين المحتلة وتداعيات هذه الخسارات وارتداداتها عليها وعلى حلفائها. ومن ابرز دوافع شنّ هذه الحملة الجديدة ضد ايران التغطيةُ على تداعيات خسارة واشنطن معركة اعترافها بالقدس عاصمةً لـِ "اسرائيل" ، وإجماع العرب والمسلمين على ادانتها ، وما يحمله ذلك من احتمالات وازنة لإتساع نفوذ محور المقاومة في صراعه ضد اميركا و"اسرائيل" معاً.
الى اين من هنا ؟
الأرجح ان واشنطن ستحاول ، لكنها لن تنجح ، في تطوير عداوتها لإيران وحملتها المتصاعدة عليها الى أبعد مما وصلت اليه حتى الآن بدليل ان وزير الدفاع جيمس ماتيس أكد اخيراً ان اميركا ستواجه ايران ديبلوماسياً لا عسكرياً . ذلك لأن إيران وحلفاءها في محور المقاومة كسبوا اخيراً مزيداً من القوة والنفوذ على الصعيدين السياسي والميداني. ثم ان العالم برمته ، ولاسيما دول الاتحاد الاوروبي وروسيا والصين ، تعارض وتناهض محاولات اميركا تعطيل الاتفاق النووي او تجاوز موجباته الملزمة . كل ذلك ينبىء بإخفاق مبكر لسياسة ، بل نزوة ، ترامب الجديدة ضد ايران وحلفائها.
أجَل ، اميركا تتجه الى تراجع متزايد على جميع المستويات في عالم تحرر من سطوتها وبات اكثر قدرة على توظيف ارادات دوله في حماية استقلالها وتعزيز مصالحها .
اذا كان هذا هو اتجاه الأحداث في المنعطف الراهن من حركة التاريخ، فماذا تراها تخطط قيادات قوى المقاومة العربية وماذا ستفعل لتعزيز مواجهتها الطويلة النَفَس للعدو الصهيواميركي ؟
انه سؤال اليوم والغد .