من ادارة الازمة الى ادارة الصراع
د. عصام نعمان
الصراع الفلسطيني – الصهيوني قديم ومزمن . اشتدّ على مراحل في منتصف ثلاثينات واربعينات وستينات وسبعينات القرن الماضي. تراجعت وتيرته بعد إخراج منظمة التحرير وفصائل المقاومة الفلسطينية من لبنان عقب حرب اسرائيل العام 1982 واحتلالها نحو نصف مساحة البلاد . توقف او كاد عقب اتفاقات اوسلو العام 1993 وتحوّل شكلاً من اشكال ادارة الازمة. صحيح ان اضطرابات امنية كانت تتفجر في الضفة الغربية احياناً وحروباً كانت تشنها "اسرائيل" ضد قطاع غزة احياناً اخرى ، لكن إدارة الازمة كانت ، وما زالت ، السمة العامة لحال العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية.
مع اتفاقات اوسلو تراجعت قضية فلسطين وفقدت مركزيتها في الحياة السياسية العربية. ولأن "اسرائيل" لم تنفذ احكام الاتفاقات المذكورة ، تكبّد الفلسطينيون المزيد من الخسائر: عزل الاراضي المحتلة العام 1967 عن الاراضي المحتلة العام 1948 بإقامة جدار فاصل من الشمال الى الجنوب ، وتوسيع دائرة الإستيطان ، وتكثّيف تهويد القدس ، وفرض حصار شديد على قطاع غزة ، ومضاعفة قمع الفلسطينيين في الضفة وداخل الكيان الصهيوني، وتطويل امد المفاوضات دونما طائل اكثر من عشرين سنة ، وادارة الإحتلال لحساب "اسرائيل" من قبل السلطة الفلسطينية ما ادى الى اعفاء المحتل من موجباته وترسيخ الإحتلال.
في إطار ادارة الأزمة ، قامت السلطة الفلسطينية اخيراً بخطوة اضافية ناقصة: قدّمت ، عبر الاردن وبدعم من جامعة الدول العربية ، مشروعاً الى مجلس الامن الدولي يقضي بإنهاء الإحتلال الاسرائيلي قبل آخر 2017 ،وقد أُجريت عليه لاحقاً تعديلات افرغته من مضمونه الناقص اصلاً ، فما عاد يلبي حقوق الفلسطينيين الوطنية التاريخية، هابطاً الى ما دون سقف قرارات الامم المتحدة ولاسيما بإهماله حق تقرير المصير، وحق العودة ، والحق في القدس ، وازالة المستوطنات ، وحقوق اللاجئين.
معظم منظمات المقاومة الفلسطينية الوازنة رفضت ما يسمى مشروع القرار العربي ودعت الى سحبه . "اسرائيل" رفضته ودعت الولايات المتحدة الى استخدام حق "الفيتو" لنقضه . ادارة اوباما دعت الفلسطينيين الى استئخار تقديمه الى ما بعد الفراغ من الإنتخابات البرلمانية الإسرائيلية ولوّحت بإستخدام "الفيتو" .
ما ردُّ السلطة الفلسطينية ؟
الرئيس محمود عباس هدّد بوقف التعامل مع "اسرائيل" في حال عدم إقرار المشروع في مجلس الامن . فوق ذلك ، هدد كبير المفاوضين صائب عريقات بالإنضمام الى جملة معاهدات ومواثيق دولية ابرزها اتفاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية.
المشروع العربي سيء وخطير في مضمونه ، وتوقيته ، ومآله .
هو سيء في مضمونه لأنه يشكّل تراجعاً غير مشروع وغير مقبول عن الحقوق الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني ، ويضع في يد الكيان الصهيوني والولايات المتحدة مستَنَداً يمكّنهما ، حتى لو لم يقرّ قي مجلس الامن ، من الإلتفاف على ما تبقّى للفلسطينيين من حقوق بغية حرمانهم منها. أليس المشروع العربي من اسقط لهم حقوقاً وطنية ؟
وهو سيء في توقيته لأن موازين القوى الاقليمية والدولية في الوقت الحاضر ليست في صالح العرب والمسلمين الامر الذي يؤدي حتماً الى اسقاط المشروع في مجلس الامن وبالتالي تسديد صفعة شديدة لاصحاب المشروع عموماً وللفلسطينيين خصوصاً وهم جميعاً بغنى عنها.
وهو سيء وخطير في مآله اذْ يتيح لـِ "اسرائيل" ، بعد نقضه في مجلس الامن، الإسترسال في عدوانها على حقوق الفلسطينيين بتكثيف الإستيطان وتهويد القدس ومباشرة تنفيذ مخططات تهجير الفلسطينيين من الضفة كما من الاراضي المحتلة العام 1948.
الى ذلك ، المشروع غير واقعي وغير قابل للتحقيق بوجود خلافات عميقة بين الفلسطينيين انفسهم ، قيادات وتنظيمات ، حول مضمونه وتوقيته ومآله ، بالإضافة الى اخفاق القيادات والتنظيمات في انجاز مصالحة وطنية حقيقية والتوافق على إقامة حكومة وحدة وطنية قوية وقادرة على التقرير والتنفيذ .
هذه المعوّقات والتعقيدات تطرح مجدداً السؤال الخالد : ما العمل ؟
ثمة مبادرات خمس تقتضي مباشرتها بلا إبطاء :
اولاها ، المبادرة الى انجاز مصالحة وطنية عميقة وشاملة تكفل بناء وحدة وطنية صلبة بين جميع قيادات وفصائل الشعب الفلسطيني وقوى المقاومة في الوطن والشتات .
ثانيتها، مبادرة قيادات المنظمة والسلطة ومختلف تنظيمات المقاومة الى إعادة بناء وتجديد وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية لتصبح قولاً وفعلاً القيادة الحقيقية للشعب الفلسطيني في الوطن والشتات .
ثالثتها ، مبادرة قيادة منظمة التحرير ، بما هي الممثلة الشرعية لجميع هيئات وتنظيمات وفعاليات الشعب الفلسطيني ، الى اجراء تحليل وتشخيص موضوعيين لواقع الصراع الفلسطيني-الصهيوني في اطار موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية الراهنة ، ووضع استراتيجية متكاملة لتفعيل الكفاح الفلسطيني بما هو حركة تحرير وطني ببرنامج مرحلي متطور بحسب تطور الاحداث والتحديات والظروف .
رابعتها ، مبادرة قيادة منظمة التحرير، وبالتالي السلطة الوطنية الفلسطينية العاملة في ضوء برنامجها المرحلي ، الى الإنتقال من نهج إدارة الازمة الى نهج ادارة الصراع بما هو كفاح لتحرير الوطن من البحر الى النهر وتأمين حق تقرير المصير وحق العودة وبناء دولة وطنية مستقلة وديمقراطية .
خامستها ، المبادرة الى تفعيل المقاومة الشعبية ضد الكيان الصهيوني واتخاذ كل ما يقتضيه ذلك من اجراءات مكمِّلة كإلغاء إتفاق التنسيق الامني مع حكومة العدو، وتجاوز اتفاق اوسلو ، والإنضمام الى المعاهدات والمواثيق الدولية ولا سيما اتفاق روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية ، والافادة من احكام وإجراءات هذه المعاهدات والإتفاقات لملاحقة "اسرائيل" وقياداتها السياسية والعسكرية، ومحاصرتها سياسياً وإقتصادياً وشعبياً في كل انحاء العالم .
اجل ، يجب الإرتقاء بحركة التحرير الوطني الفلسطيني الى مرحلة تاريخية اعلى ، قيادياً وميدانياً ، لمواجهة العدو على جميع المستويات ، بحكمة وشجاعة ونَفَس طويل .