نشرت بجريدة"القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 19/12/2016
توجهات ما بعد حلب:
بوتن لإستئناف المفاوضات
وترامب لمناطق آمنة ومتابعة الحرب
د. عصام نعمان
كيف سيكون الوضع في سوريا والاقليم بعدما تمّ تحرير حلب من تنظيمات الإرهاب ؟
سؤال كبير بحاجة الى وقت طويل لإيجاد جوابٍ وافٍ عنه. ما يمكن قوله الآن إن خروج معظم تنظيمات الإرهاب من حلب بمواكبة روسية وتركية يشير فقط الى ملامح لما سيكون عليه الوضع بإنتظار المزيد من المؤشرات والتحركات التي تشي بالمرامي الحقيقية لأطراف الصراع.
لعل اول المؤشرات البازغة ان الإتفاق على إخلاء المدنيين والمسلحين كان نتيجةَ مفاوضات روسية - تركية بمعرفة السلطات السورية. اما المحادثات التي آلت الى التفاهم على إجراءات تنفيذ الإتفاق فكانت سورية – سورية ، بمعنى انها جرت بين "وسيط" مدني سوري ، الشيخ عمر رحمون ، والمسؤول العسكري لحركة "احرار الشام" في حلب المدعو الفاروق ابو بكر. كِلا الوسيطين تحرّكا بمتابعة حثيثة من ضباط سوريين كما من مسؤولي فصائل إرهابية غير خاضعة لـ "جيش فتح الشام".
تعثرت المحادثات بين الوسيطين نتيجةَ شرطين أصرّ عليهما طرفان اساسيان: تركيا ، ومن ورائها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" من جهة ، والحكومة السورية بدعم من روسيا من جهة اخرى. تركيا واميركا اشترطتا ان يتضمن الإتفاق تسهيل نقل نحو 150 ضابطاً اطلسياً (بينهم ضباط اميركيون واتراك) عالقين في شرق حلب الى الحدود السورية – التركية . اما الحكومة السورية فقد اشترطت تأمين خروج عشرات الجرحى والمرضى والمسنّين من الرجال والنساء من كفريا والفوعا المحاصرتين الى مناطق سيطرة الجيش السوري. وكان ان تكفّلت تركيا بتأمين خروج الضباط الأطلسيين ونقلهم الى اراضيها ، فيما تكّفل ضباط روس عاملون في سوريا بخروج الجرحى والمسنّين من كفريا والفوعا وتسليمهم للجيش السوري فور البدء بتنفيذ العملية .
هذا التعاون الوثيق بين موسكو وانقرة لتظهير الاتفاق ومن ثم لرعاية تنفيذه على الارض اشّر ويؤشر الى وجود اتفاق بين الطرفين على خطوات سياسية لما بعده. بالفعل ، لم يتأخر الرئيس الروسي فلاديمير بوتن عن الاعلان ، خلال زيارته طوكيو ، ان بلاده تدعو الى العمل لوقفٍ لإطلاق النار يشمل الاراضي السورية كلها ، كما الى إستئنافٍ للمفاوضات بين السوريين انفسهم ، اي بين الحكومة السورية وفصائل المعارضة السورية غير المسلحة. اكثر من ذلك ، اعلن بوتن ان موسكو وانقره تقترحان اتخاذ مدينة استانة ، عاصمة كازخستان ، مقراً لمفاوضات سورية – سورية مرتقبة من دون اعتبارها بديلاً من جنيف.
الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا استشعرت مخاطر التقارب بين روسيا وتركيا واتفاقهما على إجراءات مقاربة متناسقة للوضع السوري بعد انتهاء الحرب في حلب . لذلك سارع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب الى الاعلان عن تأييده اقامة مناطق آمنة بتمويل خليجي داخل سوريا من اجل إحتواء اوضاع المدنيين. هذا الاعلان فسّره محللون سوريون بأنه مجرد رشوة سياسية لتركيا من اجل مشاركة الولايات المتحدة في الضغط على سوريا ، سياسياً وعسكرياً ، بغية تطويق مفاعيل انتصارها الاخير في حلب وذلك بمتابعة الحرب لدعم المركز التفاوضي لفصائل المعارضة السورية. هذا مع العلم ان المناطق الآمنة اقتراح قديم لحكومة اردوغان في سياق خططها السياسية والميدانية لمواجهة محاولات القوى الكردية ، السياسية والعسكرية، الرامية الى ربط مناطق سيطرتها في محافظة الحسكة شمال سوريا الشرقي بمنطقة سيطرتها في عفرين بشمال سوريا الغربي.
الى ذلك ، ثمة طرفان اقليميان قلقان من مفاعيل تحرير حلب على مصالحهما الامنية والسياسية . بعض دول الخليج ، بقيادة السعودية ، دعا عبر اجتماع طارىء لجامعة الدول العربية الى ادانة قسوة القوات السورية في قصفها المدنيين في احياء حلب الشرقية . فوق ذلك ، أبدت دول الخليج قلقها لعدم استشارتها في مسألة مستقبل سوريا قبل وقف اطلاق النار المرتقب تمهيداً لمباشرة مفاوضات الحل السياسي.
"اسرائيل" قلقة ايضاً من مفاعيل إخراج التنظيمات الإرهابية من حلب لكونها ترفع معنويات الرئيس بشار الأسد وتصلّب تصميمه على تحرير سائر المناطق الواقعة تحت سيطرة "داعش" وحلفائها. وقد عبّر البروفسور ايال زيسر ، الأكاديمي والباحث في "معهد ديان لدراسات الشرق الأوسط وافريقيا" ، عن قلق "اسرائيل" وخيبتها بقوله : "إن انتهاء الحرب في سوريا (...) من شأنه ان يُغلق نافذة فرصٍ فُتحت امام "اسرائيل" لدى نشوب الحرب هناك تتيح من ضمن امور اخرى إمكان توجيه ضربة قاسية الى حزب الله في الاراضي السورية" ("يديعوت احرونوت" 2016/12/22 ).
الخوف من تداعيات عودة حلب الى حضن الأسد والخيبة من سياسة الرئيس الاميركي المنتهية ولايته باراك اوباما لخذلانها فصائل المعارضة المعادية للرئيس السوري حملت قياديين اسرائيليين موالين ومعارضين كما كبار حاخامي اليهود الشرقيين والغربيين على مطالبة حكومة نتنياهو بإعاداة النظر بسياستها حيال الحرب في سوريا على نحوٍ يؤدي الى مجابهة اشد لمحور المقاومة المؤلف من سوريا وايران وحزب الله.
هذا التصعيد في الموقف ضد دمشق وطهران امتد الى باحثي "معهد الأمن القومي" الإسرائيلي وخبرائه. فقد نشر الباحث اودي ديكل في "مباط عال" (2016/12/14) تحليلاً جاء فيه : "على افتراض انه بعد سقوط حلب ستحاول قوات الأسد ، بتشجيع من ايران وحزب الله ، توجبه مجهودها نحو جنوب سوريا من اجل السيطرة على المناطق الواقعة تحت سيطرة المتمردين ، فإن قتالاً سيدور في مثل هذا الوضع بالقرب من الحدود في هضبة الجولان بمشاركة قوات ايرانية وقوات من حزب الله مع خطر كبير بأن تنزلق الأحداث الى داخل اراضي اسرائيل".
هكذا يتضح ان "اسرائيل" تنظر الى تداعيات تحرير حلب من تنظيمات الإرهاب في منظور تنامي قوة ايران ونفوذها وانعكاس ذلك كله على امنها القومي. غير انها تتأنّى في اتخاذ موقف اكثر حزماً وفعالية حيال مستقبل الصراع في سوريا بإنتظار تسلّم الرئيس المنتخب دونالد ترامب سلطاته في 2017/1/20 ومعرفة توجهات سياسته حيال روسيا واحتمال تعاونه مع الرئيس بوتن على مواجهة منسقة ضد تنظيمات الإرهاب.
الكل ، على ما يبدو، في انتظار ما سيفعله ترامب...