ثورة في الدين لا عليه ...
د. عصام نعمان
دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي العلماء واهل الرأي في الازهر الشريف الى القيام بثورة دينية لتجديد الخطاب الديني وتغيير المفاهيم الخاطئة. لعل ما قصد اليه الرئيس المصري ثورة في الدين لا ثورة عليه . دعوته تكتسب اهمية فائقة لأنه رئيس اكبر دولة عربية ، ولأنه اطلقها في اكبر محفل ديني اسلامي معترف به رسمياً وشعبياً في عالم العرب ، ولأن دعوته الى تجديد الخطاب الديني وتغيير (او تصحيح) المفاهيم الخاطئة اتت في اعقاب ثورة مضادة تعصف بالعرب والمسلمين وتبتغي تعميم فكر ماضوي شديد التزمت ومغالٍ في اباحة العنف الاعمى ضد الآخر المختلف حتى لو كان من المِلّة نفسها.
لئن بدا السيسي اول الحكام العرب المعاصرين في الدعوة الى ثورة في الفكر الديني لتصحيح المفاهيم الخاطئة ، فإن ثمة مفكرين وعلماء وفقهاء قدامى وجدداً سبقوه في هذا المجال كالإمام محمد عبده ، عبد الرحمن الكواكبي ، علي عبدالرازق ، عبد الله العلايلي ، احمد ابو المجد ، محمد اركون ، حسين احمـد امين ، محمد النويهي ، عبد الله العروي ، جمال البنا ، محمد عابد الجابري ، عبد الاله بلقزيز وغيرهم.
مفكرون وعلماء كثر كانوا تنبهّوا الى تردّي حال الامة . افصحهم في توصيفها، على ما اظن ، كان جمال الدين الأفغاني بقوله : " الامة التي ليس في شؤونها حل ولا عقد ، ولا تُستشار في مصالحها ، ولا اثر لارادتها في منافعها العمومية ، انما هي خاضعة لحاكم واحد إرادته قانون ، ومشيئته نظام ، يحكم ما يشاء ، ويفعل ما يريد ، تلك امة لا تَثبت على حالٍ واحدة ، ولا ينضبط لها سير". أليس توصيف الافغاني لحال الامة في زمنه يصدق عليها في زمننا ؟
مسائل عدّة استوقفت المفكرين والعلماء والفقهاء المستنيرين منذ عصر الأفغاني . لعل اكثرها إثارة للجدل مسألة الإسلام ديناً ودولة. فالإسلام عقيدةٌ وشريعة. العقيدة هي الاصل . الشريعة هي الفرع . تقوم العقيدة على الإيمان بالله الواحد الاحد وبرسله وكتبه والآخرة ، وبقيم الحق والعدل والحرية. وهي ظهرت في الفترة المكيّة على مدى ثلاثة عشر عاماً من زمن البعثة النبوية . الشريعةُ ظهرت مع الهجرة وبعدها. فهي ، اذاً، فرع ومقتضى من مقتضيات العقيدة.
غاية الإسلام هداية الناس. هذه في العبادات جاءت بنص مفصّل عليها ، فليس في امور العبادة ما تتغيّر فيه المصلحة بتغيّر الزمان والمكان. اما الامور المعيشية ، فيقول احمد ابو المجد إنها " تبقى على الاصل في الحل والإباحة الاصلية وحرية الحركة في طلب الاصلح ..." .
هل تتطلب الشريعة ، بما هي نظام ، حكومة ترعاها وتنفّذ احكامها ؟
الإمام حسن البنّا قال : "يفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدةً من قواعد النظام الإجتماعي الذي جاء به الى الناس". محمد مبارك جارى البنّا بقوله : "إن الدولة ضرورة في الإسلام لأن تنفيذ احكام القرآن ممتنع من دون دولة".
جمال البنّا ، الاخ الاصغر للأمام ، لا يجادل في وجوب قيام دولة تتولى الردع والوقاية "لأن المجتمع لا يحتفظ بإنتظامه إلاّ بوازع السلطان". لكنه ، وغيره كثر ، رفضوا النظرية القائلة بوحدة السلطتين الدينية والزمنية . محمد عمارة استعان بقول الإمام محمد عبده إن اوروبا لم تحقق نهضتها "إلاّ بعد ان فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية". اكثر من ذلك ، أصرّ جمال البنا على ان الإسلام دين وأمة وانه "لا يوجد في القرآن دَوْلَة إنما دُّولة. فكلمة دُّولة ، وليس دَوْلَة، وردت مرةً واحدة في صدد الحديث عن الفيء (كي لا يكون دُّولة بين الاغنياء منكم - سورة الحشر ، الآية 7) اي لا تكون غَلَبَة ، في حين نجد القرآن يستخدم كلمة امة في 49 موضعاً، ويجعل هذه الكلمة في الوصف الجماعي للناس والمؤمنين".
عبد الله العروي لاحظ ان العبارة "الإسلام دين ودولة" وصفٌ للواقع القائم منذ قرون ، اي لحكم سلطاني مطلق حافظ ، لأسباب سياسية محض، على قواعد الشرع. قال "إن التاريخ الوقائعي لم يعرف دولة "اسلامية" بإستثناء فترة الوحي والإلهام، ولم تظهر في التأليف الإسلامي دولةٌ إسلامية." (راجع كتابه : مفهوم الدولة ، صفحة 122- 123).
لئن كان تطبيق الشريعة إلزامياً في نظر عبد السلام ياسين ويوسف القرضاوي وطارق البشري ، فإن حسين احمد امين يجزم ، نتيجةَ قراءته في البلوي وابن ايبك الدواداري وابن الفرات والمقريزي وابن تغري بردى والصيرفي والسخاوي والسيوطي وابن اياس والجبرتي وغيرهم ، " بأن الإسلام لم يكن ، لا في مصر ولا في غيرها ، يسود فكرنا او ثقافتنا او سياستنا او عقيدتنا او نظامنا ، ولا كانت الشريعة الإسلامية مطبقةً في اي وقت من الاوقات ، عدا زمن النبي (ص) والخلفاء الراشدين ..." .
يرفض محمد النويهي ايضاً إلزامية تطبيق الشريعة كما يرفض الإلزام بأقوال العلماء القدامى "إلاّ اذا اعتقدنا بأنهم لهم وحدهم حق التمييز والاجتهاد وليس لأحد ممن جاء بعدهم" . يجاريه في رأيه هذا محمد عابد الجابري اذ يدعو الى فتح باب الإجتهاد وتأصيل اصول الفقه ببنائها على اساس مقاصد الشريعة وفق منهج الفقيه المالكي الاندلسي الإمام الشاطبي ، مؤكداً ان تطبيق الشريعة لا يجوز ان يعني فقط إقامة الحدود ، كقطع يد السارق ، لأن هناك مبادئ واحكاماً اخرى يجب ان تُطبق مثل مبدأ الشورى في الحياة السياسية ومبدأ "الناس كأسنان المشط" في مختلف مرافق الحياة ، وان "مصالح العباد" لم تعد مقصورة على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال بل على امور اخرى كالحق في حرية التعبير وحرية الإنتماء السياسي وانتخاب الحاكمين والحق في العمل والخبز والمسكن والملبس والتعليم والصحة والعلاج.
في ضوء ما تقدّم بيانه يستقيم الإستنتاج ان مسألة تطبيق الشريعة التي يدعو الإسلامايون السلفيون المتطرفون الى فرضها بالقوة والعنف هي ، في التحليل الاخير، مسألة تقرير ما اذا كان يقتضي إلزام المجتمع بها ام تركها امانةً لدى الناس، مسؤولين ومواطنين ، علماء وبسطاء ، كي يقرروا بأنفسهم بحسب ضرورات الحياة واحتياجاتها من جهة ، والنظام الاخلاقي الاسلامي ومقتضيات الإنتظام العام من جهة اخرى ، الإلتزام او عدم الإلتزام بأحكامها وقواعدها عملاً بحرية الإعتقاد (لا اكراه في الدين - سورة البقرة ، الآية 256).
اجل ، ان الحرية والعدل والكرامة اسس جوهرية في الإسلام ، وهي قيم دافعة بإتجاه ايثار خيار الإلتزام على خيار الإلزام في تطبيق الشريعة . فهل يُطلق الازهر الشريف كما مراكز الابحاث والدراسات والقوى الحيّة مناقشةً عميقة واسعة لتجديد الخطاب الديني وتصحيح المفاهيم الخاطئة في عالم العرب والمسلمين؟