نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 28/12/2015
هل يمكن تفادي تفتيت العراق ... وكيف ؟
د. عصام نعمان
العراق في خطر . ليس وحدته السياسية فحسب بل وجوده ايضاً. أحدُ قيادييه العروبيين قال إن ما يتهدده ليس التقسيم بل التفتيت . فالتقسيم ينال من وحدة الدولة بينما التفتيت ينال من وحدة المجتمع والدولة معاً.
ظاهر الحال يوحي بأن ثمة دولة اتحادية تقودها حكومة مركزية في بغداد. واقع الحال ان الدولة تفككت الى :
- اقليم بحكم ذاتي ، شبه مستقل ، في الشمال حيث غالبية السكان من الاكراد .
- محافظات في الغرب ، يرزح بعضها كمحافظتيّ نينوى (الموصل) والأنبار تحت نير "داعش" .
- محافظات في الوسط والجنوب تعيش في فوضى واضطراب امني متواصلين ، حيث سلطة الحكومة الاتحادية هشّة، رخوة او متراخية.
اخطرُ مرضٍ يضرب المجتمع العراقي ، روحاً وجسماً ، هو المذهبية . قبل الإحتلال الاميركي العام 2003، كان ثمة استبداد وقمع لكن الوحدة الوطنية كانت سائدة وروح العروبة نابضة . بعد الإحتلال ، انهارت الدولة فإندلعت العصبيات القبلية والطائفية ، خصوصاً عقب حلّ الجيش العراقي وتسريح ضباطه واضطهادهم.
الجيش في البلد ذي الطابع التعددي هو العمود الفقري للدولة والمجتمع . كسر الجيش يؤدي الى كسر الدولة والمجتمع معاً. هذا ما حدث ويحدث في العراق مع الاحتلال الاميركي وبعده. بات واضحاً ان حلّ الجيش لم يكن تدبيراً امنياً ظرفياً بل كان جزءاً من مخطط استراتيجي سرعان ما تكشّف عن إقتراح قدّمه السناتور جو بايدن (الذي اصبح لاحقاً نائباً للرئيس باراك اوباما) للكونغرس الاميركي دعا لتقسيم العراق الى ثلاثة اقاليم وبالتالي الى ثلاث دول.
وتيرة الاحداث ، وهي في معظمها مدبّرة ، صبّت في مجرى التفكيك والتفتيت. ففي العام 2006 ، جرى تفجير مرقديّ الإمامين حسن العسكري وعلي الهادي في سامراء. في العام 2007، وافق الكونغرس على اقتراح بايدن التقسيمي. في السنوات اللاحقة تصدّعت بإطّراد العلاقات بين حكومة بغداد وحكومة اقليم كردستان العراق حتى بلغت حدّ القطيعة بسبب عائدات النفط ما ادى الى وقف تسديد استحقاقات الاقليم في الميزانية رداً على إمتناع حكومته عن دفع ما يتوجب عليها للحكومة الإتحادية . في العام 2014 ، احتل "داعش" الموصل ومحافظة الأنبار ومعظم محافظة صلاح الدين وهدد اربيل ، عاصمة اقليم كردستان العراق . وفي العام 2015 ، تدخلت تركيا بقوة عسكرية برية مدعومة بكتيبة دبابات اتخذت مواقع لها في منطقة بعشيقة ، شمالي الموصل ، بعمق 30 كيلومتراً بدعوى تدريب قوات "البيشمركة" الكردية لمواجهة "داعش".
استغلت واشنطن هذه التطورات بإستدراج بعض قادة عشائر الأنبار واغرائهم ببناء "حرس وطني" من ابناء المحافظات الغربية ذات الطابع السنّي الغالب وتدريبه وتسليحه بدعوى "حمايتها" من "داعش" ومن ابناء المحافظات الاخرى ذات الطابع الشيعي الغالب. في هذا السياق ، استغلت واشنطن بعض التجاوزات التي ارتكبها افراد او مجموعات من "الحشد الشعبي" اثناء تحرير مدينة تكريت من "داعش" فجرى تضخيمها لتأليب اهل السنّة على "الحشد الشعبي" ذي الغالبية الشيعية.
اذ يرفض بعض قادة العشائر في محافظتيّ الأنبار وصلاح الدين ، بتحريض من واشنطن ، مشاركة "الحشد الشعبي" في معركة تحرير الرمادي وغيرها من المناطق التي يسيطر عليها "داعش"، تُحجم الحكومة الإتحادية برئاسة حيدر العبادي عن القيام بأي تدبير جذري لتوحيد صفوف العراقيين، مسؤولين ومواطنين ، ولإحباط المخطط التقسيمي بوجوهه الاميركية والتركية والداعشية .
في حمأة هذه التطورات ذات الطابع التفتيتي ، كشفت موسكو للعراقيين وللعالم ترتيبات يجري اعدادها لعقد مؤتمر للاحزاب والهيئات السياسية الكردية المؤيدة لرئيس اقليم كردستان العراق مسعود البرزاني بغية تدارس مسألة اعلان استقلال الاقليم. تضمّن تقرير موسكو المسرّب الى المسؤولين العراقيين معلومات حول دعم انقرة ودولة خليجية ، كما واشنطن بطبيعة الحال ، لإقامة اقليم سنّي موازٍ في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، على ان يدعم البرزاني و"دولته " المستقلة إقامة الأقليم السنّي الموعود.
ازاء تواتر الأحداث المقلقة وتزايد التحركات الآيلة الى التفتيت والتقسيم ، ينهض سؤال ضاغط: ما العمل ؟
يقتضي الإنطلاق في الاجابة والمعالجة من حقيقة بازغة مفادها ان المجتمع السياسي العراقي منقسم على نفسه ، وان الإنقسام لا يعصف بقطاع من اهل السنّة فحسب بل يتناول ايضاً قطاعاً كبيراً من اهل الشيعة في السلطة يحبّذ جهاراً الإنفراد بحكم العراق بعيداً من اهل السنّة في محافظاته الغربية.
يزداد الامر تعقيداً بغلبة الطابع الشيعي على فصائل "الحشد الشعبي" المتمسكة بوحدة العراق والمناهضة للتدخلات الاجنبية ، ولاسيما الاميركية والتركية ، والناشطة في مقاومة الإرهاب التكفيري وفي مقدّمه تنظيم "داعش".
لعل المخرج من هذه المحنة هو في الدعوة الى عقد مؤتمر وطني جامع للقوى الحية، بمبادرة من قوى وشخصيات قومية عراقية وعربية، للتوافق على اطلاق مشروع للإنقاذ والنهوض والبناء قوامه:
(أ) ميثاق وطني للتحرير والتوحيد والإصلاح السياسي والدستوري والإقتصادي بإتجاه بناء دولة مدنية ديمقراطية على اسس الحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية.
(ب)بناء جبهة شعبية للمقاومة والتحرير ، عابرة للطوائف والمناطق ، ملتزمة الحياد بين المراجع والمؤسسات الدينية ، مستقلة عن اي ارتباط بقوى خارجية معادية لوحدة العراق ومناوئة لقضايا الأمة ولا سيما قضية فلسطين، او متواطئة مع اسرائيل العنصرية والإرهاب التكفيري.
(جـ) اعادة بناء الجيش العراقي على اساس وطني جامع وعقيدة قتالية متكاملة لمواجهة اعداء وحدة العراق واعداء وحدة الأمة وحقها في الحرية والكرامة والعدالة والتقدم.
(د) النأي بالنفس عن جماعة المشاركين، قديماً وحديثاً ، في ما يسمى " العملية السياسية "، وملاحقة المشاركين في الفساد ونهب المال العام منذ الإحتلال الاميركي حتى الوقت الحاضر، وإقامة تحالف وثيق مع قوى المقاومة في سوريا ولبنان وفلسطين ، والتعاون مع قوى التحرر والديمقراطية في عالم العرب ، والإنفتاح على مصر ودعمها في سعيها لإستعادة دورها العربي والاقليمي والتحرر من هيمنة الولايات المتحدة وحلفائها .
التحديات جمّة ، والاعداء كثر . لكن الارادة الوطنية والمقاومة المدنية والميدانية كفيلة بوضع العراق على مسار الإنقاذ والنهوض والبناء.