نشرت بجريدة"البناء" "القدس العربي"
تاريخ 31/7/2017
خمسة تحوّلات ترسم ملامح
مرحلة مغايرة في صراعات المنطقة
د. عصام نعمان
كانت منطقة غرب آسيا مسرح صراعات دولية وسياسية وإقتصادية وعسكرية على مدى القرن العشرين ، تخللتها حربان عالميتان ، الاولى (1918-1914) والثانية (1945-1939) وبضعة حروب اقليمية أهمها حروب "اسرائيل" المتعددة على الشعب الفلسطيني وعلى مصر وسوريا ولبنان ، والحرب العراقية – الإيرانية ، والحرب الاميركية على العراق ، وحرب تركيا المتواصلة على الكرد في داخلها وفي العراق وسوريا.
مع اندلاع "ثورات" الربيع العربي وصعود حركات "الإسلام الجهادي" ، ولاسيما تنظيم "القاعدة" بفرعيه الاكثر نشاطاً ، "الدولة الإسلامية - داعش" و"جبهة النصرة" بأسمائها المتعددة والمتبدلة ، دخلت منطقة غرب آسيا في مرحلة جديدة متقدمة من الصراعات الأكثر تعقيداً ، واتساعاً، والأفعل جاذبية لمشاركة دول كبرى في معمعتها كاميركا وروسيا.
غرب آسيا عبارة عن برزخ جغرافي يمتد من الشواطيء الشرقية للبحر الأبيض المتوسط الى الشواطىء الجنوبية لبحر قزوين ، ومن الشواطيء التركية على البحر الاسود الى الشواطيء اليمنية والعُمانية على شواطيء بحر العرب . يضمّ هذا البرزخ اكثر من 15 دولة و3 قوميات كبرى (العرب والترك والفرس) ومجموعة من القوميات الاصغر حجماً، اكبرها الكرد والاذريون. كما يحتضن اربعة مضائق استراتيجية : البوسفور والدردنيل (تركيا) وقناة السويس(مصر) وباب المندب (اليمن) وهرمز (ايران).
تحوّلات خمسة بزغت تباعاً في دول هذا البرزخ نتيجةَ صراعاتٍ مزمنة تدور فيها وتدخلات خارجية مستجدة انعكست بقوة على صراعاتها.
التحوّل الاول عودةُ الولايات المتحدة الى التدخل مباشرةً او مداورةً في الصراعات المحتدمة بلغ اوجَه في العام 2014 مع صعود تنظيمات "الاسلام الجهادي" وتمكّن احدها ، "داعش" ، من السيطرة على مدينة الموصل بالاضافة الى محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار، اي ما يزيد عن ثلث مساحة العراق ، واعلانه مدينة الرقة عاصمةً لـِ "دولة الخلافة الاسلامية" في العراق والشام ، بالاضافة الى سيطرته مع
"النصرة" وتنظيمات اخرى على مدينة حلب ومساحات واسعة من محافظات شمال سوريا وشرقها ووسطها وجنوبها. إزاء ذلك ، اقامت الولايات المتحدة ، بالتعاون مع نحو خمسين دولة ،"التحالف الدولي ضد الإرهاب" الذي قام ، ظاهراً ، بقصف جوي محدود لبعض مواقع "داعش"، لكنه تقصّد ايضاً تزويده ، عبر تركيا ، بالسلاح والعتاد ، كما موّل ودرّب وسلّح عدداً من تنظيمات المعارضة السورية المسلّحة ونسّق قتالها ضد الجيش السوري.
التنظيمات الإرهابية وحلفاؤها فشلوا في تحقيق اغراضهم بينما نجح الجيش السوري وحلفاؤه في طردها من حلب وبلدات وقرى سورية اخرى ما ادى الى حصول تطورين لافتين : الاول ، قيام واشنطن ، اثناء ولاية الرئيس باراك اوباما ، بوقف برنامج تمويل وتدريب وتسليح تنظيمات المعارضة السورية ، ثم قيام ادارة الرئيس دونالد ترامب اخيراً بالتخلي عنها ومطالبتها بحصر مواجهتها بـِ "داعش" وعدم مقاتلة الجيش السوري. الثاني ، توافق موسكو وواشنطن على إقامة "مناطق خفض التصعيد" في شمال سوريا ووسطها وجنوبها الامر الذي انعكس سلباً على التنظيمات الإرهابية والمعارضة وعزز مساعي روسيا لإيجاد تسوية سياسية للحرب في سوريا وعليها من خلال مفاوضات استانه وجنيف.
بإختصار ، دور اميركا العسكري في سوريا تقلّص كثيراً ، ولن يمضي وقت طويل قبل ان تقوم بسحب قواتها البرية من شمال سوريا (الحسكة والرقة ) وشرقها (منطقة التنف).
التحوّل الثاني عودةُ روسيا بقوة وفعالية الى سوريا ، عسكرياً وديبلوماسياً ، و الى تركيا سياسياً وديبلوماسياً الامر الذي ادى الى إضعاف دور اميركا في كِلا الدولتين. فقد عززت موسكو قواتها الجوية والبحرية والبرية في سوريا ، وأسهم طيرانها الحربي بفعالية في دعم الجيش السوري ضد التنظيمات الإرهابية ، ونجحت تالياً في إقناع واشنطن وأنقرة بدعم مبادرتها في اقامة مناطق "خفض التصعيد" .
بإختصار ، الدور والنفوذ الروسيان صاعدان في سوريا بدليل موافقة دمشق على تمديد أجل معاهدتها مع موسكو بشأن قاعدة طرطوس البحرية تصل الى نحو نصف قرن.
التحوّل الثالث إنهزامُ "داعش" في الموصل وفي محافظات العراق الغربية ما يؤشر الى فشل شامل في سائر انحاء العراق ؛ وانهزام "النصرة" في حلب وشمال سوريا واخيراً في الجرود على حدود لبنان الشرقية ؛ واتجاه الجيش السوري الى دحر "داعش" في محافظتي دير الزور والرقة وتوسيع رقعة انتشاره وسيطرته في سائر المناطق السورية. ولا شك في ان نجاحه المرتقب في السيطرة على حدود سوريا مع العراق والاردن يمكّن دمشق من استعادة سيادتها على اراضيها والإستفادة لوجستياً من جسرٍ بري يمتد من ايران الى لبنان عبر العراق ، كما يعزز دورها في محور دول المقاومة ، ما يتيح لتنظيمات المقاومة توسيع قواعدها ونفوذها وبالتالي لعب دور افعل داخل الأنظمة السياسية.
التحول الرابع انكسارُ هجمة "اسرائيل" الضارية على المسجد الاقصى لبسط سيادتها عليه. ذلك ان ردة فعل الجماهير المقدسية خاصةً والفلسطينية عامةً اكرهتها على إزالة كل البوابات الاكترونية والكاميرات الرقابية والعوائق الامنية حول مداخل المسجد ما ضخّ معنويات وحماسة هائلة في جماهير الشعب الفلسطيني ، وحمل منظمة التحرير وسلطة محمود عباس على مراعاة القوى الداعية لاعتماد نهج المقاومة ووقف التواصل مع "اسرائيل" بقطع التنسيق الامني معها ، وانتج مناخاً نضالياً حاراً يؤسس لمرحلة جديدة من الصراع ضد الكيان الصهيوني وحلفائه عناوينُه الرئيسة: تسريع مساعي استعادة الوحدة الوطنية ، وتعزيز انشطة المقاومة الشعبية ، وإحياء مركزية القضية الفلسطينية عربياً واقليمياً ودولياً، فضلاً عن لجم انفتاح بعض دول الخليج على التعاون الضمني او العلني مع "اسرائيل" ضد ايران .
التحوّل الخامس صعودُ ايران سياسياً واقتصادياً وتكنولوجياً ما مكّنها من الإضطلاع بدور فاعل في مجهودات محور المقاومة ضد الإرهاب ومخططات اميركا و"اسرائيل" العدوانية. ولعل التطور الابرز في مسار صعود ايران هو نجاحها ، بعد إلتزام اميركا والدول الخمس الكبرى بالاتفاق النووي، في إنتاج صواريخ بالستية للمدى المتوسط والمدى الطويل قادرة على حمل اقمار اصطناعية الى المدار الفضائي على ارتفاع لا يقل عن 500 كيلومتر. وكان الجيش اليمني الموالي لحكومة صنعاء اعلن قيامه بإطلاق صاروخ بالستي على قاعدة الملك فهد العسكرية في الطائف ، جنوب مكة . ومن الواضح ان هذا الصاروخ هو من صنع ايران، وان قدرة طهران على تزويد حلفائها في اليمن وسوريا ولبنان بصواريخ بالستية، سيزيد من فعالية دورها الاقليمي في وجه الولايات المتحدة كما ضد "اسرائيل".
يتحصّل من هذه التحوّلات البازغة ثلاثة نتائج ترسم ملامح أبعادها ومفاعيلها المحتملة :
أولها ميلُ مطّرد في موازين القوى على مستوى دول المنطقة الى كفة دول محور المقاومة ، وتعزيز العلاقات والتحالفات فيما بينها تنظيمات المقاومة في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وتعاونها في مواجهة خصومها .
ثانيها ضمور متدرّج في هامش الحركة والمناورة امام الولايات المتحدة و"اسرائيل" وحلفائهما وبالتالي تقلّص دورهما وفعاليتهما في مواجهة اعدائهما .
ثالثها ازديادُ فعالية قوى المقاومة داخل لبنان وسوريا وفلسطين والعراق وانعكاسها على الاوضاع الداخلية بما يحدّ من نفوذ الشبكات الحاكمة فيها ويعزز دور القوى الوطنية والتقدمية الحية الداعية للتغيير والاصلاح والدولة المدنية الديمقراطية .