نشرت بجريدة"البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 21/1/2019
ما العمل
كي لا تكون "المنطقة الآمنة"مدخلاً لتقسيم سوريا ؟
د. عصام نعمان
قبل اسبوعين ، قال دونالد ترامب لرجب طيب اردوغان في تغريدة هاتفية: "سوريا لك". "هدية" ترامب جاءت في سياق اعلان متكرر وملتبس حول عزمه سحب قواته المحتلة من شرق سوريا (التنف) وشمالها الشرقي (الرقة والحسكة). اردوغان كشف مضمون الهدية بإعلانه ،لاحقاً، إنه توصّل وترامب الى "تفاهم تاريخي" حول إقامة "منطقة آمنة" على طول الحدود التركية-السورية بعمق نحو 30 كيلومتراً.
قبل كشف هذا "التفاهم" الغامض ، كانت تركيا قد سيطرت على المنطقة الممتدة بين عفرين في شمال غرب سوريا وجرابلس في شرقها بعمليتين عسكريتين ، أطلقت على الاولى اسم "درع الفرات" سنة 2016 وعلى الثانية "غصن الزيتون" في 1918. الذريعة ؟ مقاتلةُ "الإرهابيين" من الاكراد السوريين و"داعش". النتيجة ؟ باتت تركيا تسيطر على نحو 400 كيلومتر مربع من الاراضي السورية. فوق ذلك ، قامت تركيا بإنشاء ما يُسمى "الجيش الوطني" بدمج اكثر الفصائل التي كانت تقاتل تحت راية "الجيش السوري الحر" ، واضافت اليه لاحقاً جهاز "الشرطة الوطنية " المولج فرض الامن داخل المدن.
يتضح من معلومات سربتها صحف تركية ان "المنطقة الآمنة" تشمل مدناً وبلدات تسيطر عليها "وحدات حماية الشعب" و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية ، وقد اظهر مسح أجرته وكالة "انباء الاناضول" التركية شبه الرسمية ان المدن والبلدات المراد ضمها الى "المنطقة الآمنة" تشمل مدينة القامشلي وبلدات رأس العين ، وتل تمر ، والدرباسية، وعامودا، واليعربية، والمالكية (محافظة الحسكة) ، وكذلك عين العرب (محافظة حلب) وتل ابيض (محافظة الرقة). كما عارضت تركيا عودة الجيش السوري الى منبج .
لم تكتفِ تركيا بالسيطرة العسكرية على هذه المدن والبلدات بل قامت ايضاً ، على الصعيد القضائي، بتشكيل محكمة عسكرية في مدينة الباب ، وضابطة عدلية في مناطق إعزاز والباب وجرابلس. وعلى الصعيد الإقتصادي ، دشنت تركيا مشاريع تنموية واهتمت بالبنى التحتية وفتحت باب الإستثمار ما ادى الى ربط المنطقة بأنقرة ارتباطاً وثيقاً. وعلى الصعيد التعليمي ، اصبحت المناهج تحت رعاية انقرة ، وكذلك المدرّسين والعاملين في المشاريع الجديدة والموظفين في المجالس المحلية والمؤسسات العسكرية التي باتت رواتبهم تُدفع بالليرة التركية. قيام انقرة بعملية التتريك هذه لمنطقة سورية مترامية الأطراف ذكّر المراقبين بخطة تطلق عليها أنقرة اسم "ميثاق ملي" للوصول من حلب في سوريا الى الموصل وكركوك في العراق.
ظاهرُ الحال ان غالبية الاكراد السوريين يعارضون مخطط اردوغان للسيطرة على شمال شرق سوريا. مسؤول العلاقات الخارجية لحركة المجتمع الديمقراطي الكردية ألدار خليل ، احتج على المطامع التركية بقوله: " تركيا احتلت ادلب وعفرين وهي تحاول الان احتلال منبج وشمال سوريا لعزلها عن اراضي البلاد وبذلك تُقسّم سوريا".
أصاب ألدار خليل في وصف ما تقوم به تركيا بأنه محاولة لتقسيم البلاد. اردوغان اعترف بأن ما يقوم به ليس برضى سكان المناطق المسيطر عليها ، ولاسيما الاكراد منهم ، بقوله: " إنهم ارهابيون ، وهل يمكننا ان نترك هذه المنطقة لإرهابيين ؟"
رغم وضوح غايات تركيا التوسعية فإن القيادات الكردية المعنية لم تتخذ، بعد، قراراً حاسماً بالعودة الى حضن الدولة السورية ورعايتها . ذلك ان المفاوضات بين الطرفين لم تتوصل بعد الى إتفاق واضح لتوحيد الجهود في وجه المطامع التركية التي تحظى ، على ما يبدو ، بدعمٍ من الولايات المتحدة وتأييد ضمني من "اسرائيل" كأن ما يقوم به اردوغان من تدابير تقسيمية هو بالنيابة عن ترامب ونتنياهو . فها هو رئيس هيئة الاركان الاميركية المشتركة الجنرال جون دانفورد يبحث مع المسؤولين الاتراك تفاصيل خطة السيطرة التركية على مناطق الشمال السوري.
لأبرز مؤسسي الكيان الصهيوني دايفيد بن غوريون توصية لافتة لزملائه : إن بقاء "اسرائيل" رهن بنجاحها في تقسيم محيطها الجغرافي الذي يشمل لبنان وسوريا والاردن والعراق ومصر. قادة الولايات المتحدة المتعاقبون ، ولاسيما بوش الابن وترامب ، تبنّوا مخطط بن غوريون وخلفائه من القادة الصهاينة وقاموا بتنفيذه بعمليات عدوانية متدرجة. أليس الإحتلال الاميركي للعراق سنة 2003 ، والسيطرة على ما لا يقلّ عن ثلث مساحة سوريا سنتي 2017 و 2018 بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية ، عمليات حربية سافرة تصبّ في خدمة المخطط الصهيوني التقسيمي الذي يقوم اردوغان الآن ، لأسباب يدّعي انها تخدم امن بلاده القومي ، بمتابعة تنفيذه ؟
لا يغيب عن حصافة المراقبين مشهديات التمويه والتغطية التي تقوم بها واشنطن وتل ابيب لشدّ انتباه العالم بعيداً من الساحة السورية. فالولايات المتحدة تعدّ لقمةٍ في وارسو ، عاصمة بولونيا ، تشارك فيها سبعون دولة في منتصف الشهر القادم غايتها إعداد البيئة السياسية العالمية لإمكانية استعمال القوة العسكرية ضد ايران بعدما تمكّنت من تجاوز العقوبات الاميركية المفروضة عليها من جهة ، وتتجه الى النجاح في اطلاق قمر اصطناعي بصاروخ باليستي من جهة اخرى. نتنياهو هدد هو الآخر بإستعمال القوة ضد ايران اذا لم "تمتثل" لتعليماته بعدم تمركز قواتها في سوريا. المراقبون يرجّحون بألا تنجح قمة وارسو لأن معظم دول الإتحاد الاوروبي ستقاطعها، كما يرجّحون ألاّ يتمكّن نتنياهو من إلحاق اذى بسوريا لأن الغاية الرئيسة من تهديداته لها ولإيران هي للإستهلاك المحلي في سياق معركة انتخابية يريد الفوز فيها دونما تداعيات.
لا يقتضي ، بطبيعة الحال ، الإستهتار بتهديدات ترامب ونتنياهو العدوانية ، فما العمل ؟
الجواب : بالإضافة الى ما تقوم به سوريا وقوى المقاومة العربية حالياً من جهود في مواجهة "اسرائيل" وتركيا مباشرةً واميركا مداورة، يقتضي ترسيخ حقيقة بازغة في عقول القادة والقوى الحيّة في المشرق العربي مفادها ان تقسيم سوريا عدوى ستنتقل حتماً الى سائر الاقطار اذا لم يتم تطويقها وسحقها في مهدها ، وان شرط نجاح هذه المهمة التاريخية هو في ترفيع مستوى التنسيق والتحالف السياسي والعسكري بين سوريا والعراق وتنظيمات المقاومة في كل أنحاء القارة العربية من اجل مواجهة مخططات اميركا و"اسرائيل" التقسيمية بتوسيع دائرة الاشتباك معها. كل ذلك بالتعاون والتنسيق السياسي والميداني مع كلٍّ من روسيا وايران ، والإنفتاح على الأكراد لكفالة ممارسة حقوقهم المدنية والديمقراطية في إطار وحدة الدولة والبلاد .
هل ثمة خيار افضل ؟