نشرت بجريدة "الخليج" و"البناء"
تاريخ 10/3/2018
هل يحاكم قابيل بتهمة قتل هابيل ؟
د. عصام نعمان
نشرت صحيفة "القدس العربي" قبل ايام ان نقابة المحامين في النجف اجرت محاكمة للخليفة الاموي هشام بن عبد الملك انتهت بالحكم عليه بالإعدام بتهمة قتل زيد بن علي بن الحسين.
الخبر طريف ومخيف في آن . طريفٌ لوجود ناس في كوكبنا الارضي ما زالوا يجدون رغبة ومتعة في الإقتصاص من شخص لإرتكابه جرماً قبل نحو 1400 سنة. مخيفٌ لإحتمال ان تتفشى هذه التقليعة في أوساط البشرية المعاصرة ، فينبري اشخاص او جماعات (من فرط ولعلهم بإحقاق الحق ونشدان العدالة) الى إجراء محاكمة لقابيل بتهمة قتل اخيه هابيل!
تصوروّا لو تحوّلت هذه التقليعة الى نزعةٍ او تقليد جارفٍ عابرٍ للأمم والشعوب ، فينبري بعض المسيحيين الى إجراء محاكمة لكل مَن يثبت التحقيق قيامه او اشتراكه او تدخله في جريمة صَلب السيد المسيح. ثم تصوروا لو ان بعض المسلمين انبرى الى إجراء محاكمة لكل من يثبت التحقيق قيامه او اشتراكه او تدخله في جرائم اغتيال كلٍ من الخلفاء الراشدين : عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن ابي طالب والخليفة الاموي عمر بن عبد العزيز (الذي يعتبره الفقهاء خليفةً راشدياً بالتقوى والفتوى والممارسة) وسيد الشهداء الحسين بن علي وغيرهم كثيرون من القادة والأعلام والأفذاذ المظلومين. تخوّفي انه اذا ما جرت هذه المحاكمات ومثيلاتها فتكون البشرية قد استحضرت ماضيها واعادت اجتراره في الحاضر وربما في المستقبل الى نهاية التاريخ.
هل من مسوّغ لتخوّفي هذا ؟
نعم ، لأن بعض العرب والمسلمين ما زال يعيش في الماضي ويقوم ، بشكلٍ او بآخر ، بإستحضار بعض واقعاته وحكاياته واحداثه وحوادثه ويُعيد اجترارها او محاكاتها في الحاضر.
نعم ، الماضي يحتل قسماً كبيراً من حاضرنا . ونحن نعيشه يومياً ونعيد انتاجه ، بوعي او بغير وعي ، في شتى مناحي حياتنا. كل ذلك لأن الماضي في ثقافتنا ما زال المثل والمثال والقدوة والاسوة. فنحن لا نتذكّر واقعاته واحداثه لأخذ العبرة والإتعاظ بل للإجترار والمحاكاة.
ما سبب هذه الظاهرة المرَضية ؟
إنني من القائلين إن الإنسان في قوله وفعله هو ابن ثقافته . كما تكون ثقافته يكون. صحيح ان جملة عوامل وحاجات وتطلعات تكوّن ثقافة الإنسان ، وقد يكون لبعضها دور في تكوينها اكثر من غيره ، ومع ذلك فإن حضورها في عقل الإنسان وقلبه واعصابه يبقى حضوراً متكاملاً ومؤثراً.
من الواضح ان للماضي حضوراً واسعاً وفاعلاً في ثقافة معظمنا التي هي ثقافة ماضوية ، إن صحّ التعبير. معظمنا يفكّر بلغة الماضي وصِيَغه وقيمه وحتى مصطلحاته ، ويستسيغ استحضاره وإعادة تجسيده في الحاضر. نحن، بهذا المعنى، ماضويون . اجل ، ماضويون في التفكير والتدبير ونجد، غالباً، ضالتنا وفخرنا في ماضينا التليد ، ونصبو الى محاكاته في حاضرنا.
لكن ، هل ماضينا كله تليد ؟ هل كله صحيح وصحي وحقيقي ومتألّق وجدير ، تالياً ، بأن يُحاكى ويقلّد ؟
لا شك في وجود جوانب بهيّة وباهرة في ماضينا ، لكن ثمة جوانب اخرى مظلمة وبائسة . لذا لا يجوز قبول او تقبّل الماضي كله بعجره وبجره. من الممكن ، بل من الضروري ، إكتناه قيمَه وجوانبه الحيّة ، لكن من الضروري ايضاً إطّراح قيَمه الشائخة وجوانبه المظلمة .
بعض الماضويين ، وربما السلفيين ايضاً ، موغل في التعلّق بالماضي حتى حدود الشغف . الماضي كله افضل من الحاضر . الماضي كله جدير بأن يُعاد فرضه على الحاضر والمستقبل . الماضي ، في مفهوم هؤلاء ، هو المقدّس بالمقارنة مع الحاضر المدنّس.
لعل السبب الرئيس لسطوة الماضي على الحاضر هو اقتران الحاضر في معظم مراحل تاريخنا بسطوة الغير المعادي او المختلف ونزوعه الى فرض نفسه وبالتالي ثقافته علينا. رفض الجديد والحديث كان جرّاء مجيئه او اقترانه مع الآخر المستعمِر او العدو او ، اقلّه ، المختلف .
هكذا كانت ، في الغالب الاعم ، ردة فعل عامة الناس من ذوي الثقافة الماضوية. غير ان قلّة فينا، على مرّ التاريخ، تجاوزت أطر ثقافتها الماضوية وتطلعت الى ما هو خارجها واستطاعت ،تالياً، ان تقف موقفاً نقدياً من الثقافة الماضوية السائدة ومن التراث عموماً .
سببٌ آخر فاعل لتمسك عامة الناس بالماضي وتقديمه على الحاضر. إنه الدين من حيث هو مصدر الايمان. الدين موجود ونابع من الكتب الدينية المقدسة التي تعود بتاريخها الى الماضي ما يجعل المؤمن متمسكاً بالماضي كونه مصدر الايمان العزيز على قلبه ومشاعره ووجدانه .
قلائل من الناس، مفكرون عقلانيون ومصلحون شجعان ، تمكّنوا عبر التاريخ من الخروج من الماضي نحو الحاضر والمستقبل من دون ان يسيئوا الى تمسك المؤمنين، ولاسيما الماضويين منهم ، بقيَم الماضي التي يعتبرونها مقدسة. هؤلاء لاحظوا ان الايمان بالله ورسله لا يتناقض مع ثقافة الإنفتاح العقلاني على الحاضر والتشوّف المتوازن الى المستقبل. بل انهم لاحظوا ظاهرة مدمّرة هي ان عبادة السلطة التي يمارسها معظم الحكّام تتعارض مع عبادة الله . لذا دعوا الى فصل السلطة عن الدين . هذا الفصل بين الاثنين لا يسيء الى الدين بل يحصّنه ضد اخطاء اصحاب السلطة وخطاياهم . كما انه يجنّب اهل السلطة سلوكيات بعض اهل الدين المتزمّتة واحياناً المتعارضة مع مصالح الناس عامةً .
كيف الخروج من الماضي وثقافته المغلقة الى الحاضر وثقافته المنفتحة والمستقبل وثقافته المغايرة ؟
ثمة مسالك وطرائق عدّة ، لعل افعلها في زماننا وسائل التواصل الإجتماعي التي قرّبت بين الافراد والجماعات ، واتاحت للفرد فرصاً كثيرة لإطلاق قدراته وايصالها الى الملأ ، وجعلت الإنشغال بقضايا الحاضر ومتطلباته متقدّمة على قضايا الماضي واحداثه الدموية وأَوْلى بالإهتمام من محاكمة قاتلي الناس في ارواحهم وارزاقهم وطموحاتهم، وأوْلى بالتحقيق من محاكمة قابيل قاتل اخيه هابيل وامثاله من قَتَلة العظماء على مرّ التاريخ !