تجفيف موارد الإرهاب
لا يغنـي عـن إنهـاء دولتـه
د. عصام نعمان
في مواجهة الإرهاب ، الأمن يتقدّم السياسة . هذا جوهر التفاهم الإستراتيجي الذي توصّل اليه "الخمسة الكبار" في مؤتمر انطاليا لمجموعة العشرين. اربعة بين "الكبار" الخمسة اوربيون، روسيا وفرنسا والمانيا وبريطانيا، وواحد اميركي . روسيا بلغ كبرها حداً مكّنها من تمثيل سوريا وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية.
محور التفاهم الإستراتيجي تجفيف موارد الإرهاب. جون كيري سارع الى ترجمة ما يعنيه ذلك ميدانياً : "الحدود الكاملة لشمال سوريا (مع تركيا) أغلقت 75 في المئة منها الآن ، ونحن مقبلون على عملية مع الأتراك لإغلاق 98 كيلومتراً متبقية".
تركيا تراجعت ، ضمناً ، عن إلحاحها لإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا. إلتزمت ، ظاهراً، اغلاق حدودها في وجه تدفق "المجاهدين" الزاحفين من اربع جهات الارض للإلتحاق بـِ "الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش" . كما وافقت ، ظاهراً ايضاً ، على وقف تصدير النفط (الذي يستخرجه "داعش" من الآبار السورية والعراقية ) عبر موانئها على البحر المتوسط . قيل إن دخل "داعش" من النفط لا يقل عن 50 مليون دولار شهرياً.
موارد "داعش" لا تقتصر على عائدات النفط بل تشمل ايضاً تسويق مفردات الآثار في بلاد الشام وبلاد الرافدين ، والإتجار بالحبوب التي تنتجها سهول البلدين الواسعة ، كما الريوع المتأتية عن بيع الطاقة الكهربائية.
روسيا نبّهت قبل غيرها الى مركزية النفط في موارد "داعش" . لذلك ركّزت على قصف وسائل نقله ولاسيما الصهاريج. قيل إنها دمرت ، في إغارة واحدة ، اكثر من 500 صهريج . فرنسا ركّزت على قصف آبار النفط في شمال شرق سوريا ما يؤدي الى تعطيل "صناعة" النفط الداعشية.
هل تكفي هذه التدابير لدحر "داعش" واخوته ؟
كلا بالتأكيد . ذلك ان الحدود التركية –السورية تمتد على مسافة لا تقل عن 900 كيلومتر ما يجعل ضبطها امراً مستحيلاً، هذا اذا كان رجب طيب اردوغان جاداً في هذا السبيل ، فكيف وهو متواطىء مع "داعش" المتواجد على قسم من الحدود بغية الحؤول دون سيطرة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الموالي لحزب العمال الكردستاني التركي المعارض على محافظة الحسكة السورية وامتدادها الحدودي الى ريف حلب الشمالي ، والساعي الى إقامة منطقة حكم ذاتي.
الواقع ان المنبع الاساس لقدرات "داعش" هو تمكّنها من السيطرة على مساحات واسعة من الارض تمتد من الموصل العراقية شرقاً الى الرقة السورية غرباً ونجاحها في اقامة دولة اسلامية ، تدعوها دولة الخلافة ، وتنسب اليها "انتصاراتها" المدوية ، سواء في تفجير الطائرة الروسية فوق سيناء او في شن حملة التفجيرات الدموية في العاصمة الفرنسية . ذلك كله من شأنه اشاعة وترسيخ سمعة ضخمة مدوّية لـِ "داعش" بأنها اضحت قوة كبرى بدليل نجاحها في إذلال دول كبرى. هذه السمعة الكاسحة تمنح "داعش" قدرة واسعة على اجتذاب عشرات الآف الشبان المسلمين في شتى اصقاع الارض للإنضمام الى وحداتها المقاتلة او المشاركة في خلاياها النائمة . هل يُعدم هؤلاء الشبان المترعون بالحماسة وسيلة للوصول الى دولة الخلافة بغية الوفاء بما يعتقدون انه واجب ديني مقدس؟
الى الثقل المادي والمعنوي الذي تمور به "دولة الخلافة" ، فإن رسخوها في مساحة ارضية شاسعة يمكّنها من بناء مؤسسات واجهزة مركزية لقيادة انشطتها في شتى الميادين. ولعل ابرز المزايا التي يتيحها تمركز "الدولة الإسلامية" هو قدرتها الهائلة على تجنيد المقاتلين . هذه المزية تنبع من مصدرين : الاول ، حسن استغلالها لسمعتها المتأتية من نجاحها في محاربة دول كبرى وإذلالها . الثاني ، الإستخدام البارع والمتطور لشبكة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وتوجيهها بواسطة ادارة مركزية في الرقة .
ثمة سلاح آخر عالي الفعالية تستخدمه "داعش" في حربها ضد "الآخر " في الزمان والمكان الملائمين . انه "الخلايا النائمة" وما تنطوي عليه من "ذئاب منفردة" . هذه الخلايا لا يتطلب بناؤها وادامتها جهداً ومالاً وامداداً لوجستياً كبيراً، انما يتطلب توجيهاً مركزياً توفّره القيادة المتخصصة في الرقة. اما "الذئاب المنفردة" فهي اقل احتياجاً للتنظيم والإمداد ولو أنها تبقى دائماً بحاجة الى توجيه عام مركزي وشحن عصبي وضخ متواصل للمعنويات. ولعلها ستشكّل اضخم التحديات واخطرها اذا ما اتخذت قيادة "الدولة الإسلامية" قراراً بتزويد خلاياها النائمة و"ذئابها المنفردة" اسلحة كيميائية ودفعها الى استخدامها في مواقع بالغة الحساسية .
من هذه الواقعات والإحتمالات يمكن الخروج بإستنتاج رئيس مفاده ان لا سبيل الى دحر الإرهاب إلاّ بإقتلاع قاعدة قدراته الاساسية وقيادته الفاعلة: "الدولة الإسلامية" . هذه الحقيقة لا تغيب عن القيادات السياسية في الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وسائر الدول المتضررة من الإرهاب. غير انها تبدو مترددة في الجهر بها واتخاذ القرار الملائم بشأنها. ذلك انها تشتري الوقت بمحاربة "داعش" في الجو وتستنكف عن محاربته في البر ، مع علمها ان الطائرات قد تصيب وتدمّر لكنها عاجزة عن ان تحتل وتحرّر.
لتلكؤ الدول المتضررة من الإرهاب في نشر قوات برية وازنة لمواجهة "داعش" على الارض سببان: الاول ، رغبة بعضهم في استغلال عداء "داعش" لأنظمة حكم معادية لبعض دول كبرى واخرى اقليمية املاً في المساعدة على إسقاطها . الثاني ، تخوّف مقيم من التكلفة البشرية الباهظة المترتبة على الحرب البرية قياساً على كوارث حربيّ افغانستان والعراق.
هذا التخوّف معقول ومفهوم. لكن الامر غير المعقول وغير المفهوم هو مضيّ بعض دولٍ متضررة من "داعش" في دعمه واهمةً انها قادرة على استغلاله في حربه على بعض الأعداء المشترَكين رغم ما انتهت اليه هذه المجازفة غير المحسوبة من فواجع في سوريا واليمن واخيراً في فرنسا.
ثم ، مَن قال إن التكلفة البشرية المتأتية من مقاتلة "داعش" في البر ستكون اقل من وطأةً التكلفة المترتبة على إبقاء "الدولة الإسلامية" سادرة في موقعها وممارسة انشطتها الإرهابية الباهظة التكلفة ؟