انتفاضة القدس: من الصراع القومي الى الديني ؟
د. عصام نعمان
يخشى بعض المسؤولين الإسرائيليين ان تكون انتفاضة القدس فاتحة الإنتفاضة الثالثة. بعضهم الآخر يخشى ان يتحوّل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي معها من الطابع القومي الى الطابع الديني . بنيامين نتنياهو يخشى منها على حكومته فتراه يحمّل محمود عباس شخصياً مسؤولية التحريض على تأجيجها فيما تبدي وزيرة العدل تسيبي لفني انزعاجها من تفاقمها وتحذّر من ان "يتحوّل النزاع القومي مع الفلسطينيين الى نزاع ديني مع العالم الإسلامي بأسره".
سواء اعتبرت "اسرائيل" انتفاضة القدس فاتحة انتفاضة قومية ثالثة او نزاعاً دينياً بازغاً مع عالم الإسلام بأسره فإن ثمة حقيقة ساطعة تميّز هذه الإنتفاضة المتصاعدة عن سابقتيها في امرين :
الاول ، انها نتاج مناضلين ينشطون بصورة فردية كما مناضلين ينتمون الى تنظيمات اسلامية مقاوِمة . فالمتهم بمحاولة اغتيال العنصري الإسرائيلي البارز يهودا غاليك هو شقيق مناضل في حركة "حماس" كان أُطلق سراحه في صفقة شاليط وجرى إبعاده الى تركيا.
الثاني ، ان الوسائل التي يعتمدها مناضلو انتفاضة القدس تختلف عن تلك التي اعتمدها المناضلون الفلسطينيون في الإنتفاضتين الاولى والثانية . في الانتفاضة الاولى ، كانت الحجارة هي السلاح الوحيد ما حمل الإعلام العربي والعالمي على تسميتها "انتفاضة اطفال الحجارة" . في الإنتفاضة الثانية ، لجأ المناضلون الى استعمال اسلحة فردية خفيفة (مسدسات وبنادق) واسلحة متوسطة الفعالية (قاذفات الار بي جي). في انتفاضة القدس الجارية ، يستعمل المناضلون الامواس والسكاكين وقضبان الحديد، كما يستعملون سياراتهم لدهس الجنود الإسرائيليين في الشوارع والساحات العامة.
من المحتمل ان تتطور انتفاضة القدس الى انتفاضة ثالثة تعمّ سائر مناطق الضفة الغربية ، وان تصبح الاسلحة المعتمدة فيها اكثر فتكاً . لكن ذلك يتوقف على سياسة محمود عباس وفريقه من جهة وسياسة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" وسائر تنظيمات المقاومة في غزة والضفة من جهة اخرى.
ابو مازن ليس بالتأكيد من دعاة استئناف المقاومة . لذا لن يأمر "قوات الامن الوطني" الفلسطينية بالتعاون او ، اقلّه ، بالتهاون مع المنتفضين والمناضلين، وسوف يكتفي باللجؤ الى مجلس الامن وبالإنضمام الى اتفاق روما الخاص بالمحكمة الجنائية الدولية.
"حماس" (وربما "الجهاد الإسلامي" ايضاً) تبدو متمسكة بالهدنة وبالتالي بلجْم تنظيمات المقاومة الراغبة في متابعة القتال مع "اسرائيل" والتي تُطلق ، بين الفنية والاخرى، قذائف صاروخية على المستعمرات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة. آخر قذيفة صاروخية اطلقها احد هذه التنظيمات حملت ابو مازن ، بالإضافة الى سبب آخر ، على إلغاء زيارته لغزة. هل فعل ذلك لإعتقاده ان لـِ "حماس" يداً في إطلاق القذيفة ام لإعتقاده ان خطوته هذه تدعم "حماس" في لجم التنظيمات المتحمسة لإستئناف القتال ؟ الجواب تقرره انتفاضة القدس وطريقة "حماس" واخواتها في التعامل معها.
لعل احتمال تحويل انتفاضة القدس من صراع قومي الى صراع ديني هو ما تخشاه "اسرائيل" فعلاً. ذلك ان نتنياهو سَلََكَ منذ اكثر من خمس سنوات مسارين في محاربة قوى الممانعة والمقاومة في عالم العرب والمسلمين . الاول ، تأجيج الشقاق السنّي – الشيعي لشرذمة اعداء "اسرائيل" وشلّ فعاليتهم . الثاني ، تحويل الصراع بين بعض الدول العربية وايران الى اولوية راسخة على حساب اولوية الصراع مع "اسرائيل".
ثمة مؤشرات تدعو قادة "اسرائيل" الى التخوف من تداعيات تحويل الصراع مع الفلسطينيين الى صراع ديني يشارك فيه مسلمون من غير بلاد العرب. في هذا السياق يمكن تفسير اعلان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان نيته التوجّه الى مجلس الامن الدولي لإنهاء الإعتداءات الإسرائيلية في الحرم القدسي . اللافت ان اردوغان ابلغ نيته تلك في اتصالين هاتفيين مباشرين الى الرئيس محمود عباس ورئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" خالد مشعل . وكان الاردن سحب سفيره من تل ابيب احتجاجاً على تواطؤ الشرطة الإسرائيلية مع المستوطنين في الاعتداء على الحرم القدسي ، كما تقدّم بشكوى من مجلس الامن ما حمل نتنياهو على الإتصال بالملك عبدالله الثاني ليؤكد له عدم سعي حكومته الى تغيير الوضع في المسجد الاقصى او السماح لليهود بالصلاة فيه .
من المحتمل ان تتطور ردود الفعل العربية والإسلامية على اعتداءات "اسرائيل" في الحرم القدسي فلا تقف عند حدود مجلس الامن بل تتجاوزها الى عقد قمة عربية طارئة وربما دعوة مؤتمر التعاون الإسلامي ايضاً الى الإنعقاد . كما من المحتمل ان تطور تركيا موقفها فلا تكتفي بدعوةٍ اطلقها رئيس حكومتها احمد داود اوغلو الى مسلمي العالم لحماية المسجد الاقصى "لأن القدس لا يمكن ان تُحكم من دين واحد" .
تجارب الماضي ، ولا سيما بعد واقعة إحراق المسجد الاقصى ، لا تبعث على التفاؤل . فتركيا لا تعتبر قضية القدس اولوية في الوقت الحاضر بسبب انخراطها علناً في صراع مكشوف ضد سوريا لإزاحة الرئيس بشار الاسد واقامة نظام موالٍ لها . ثم هي تخشى ، إن هي رفعت صوتها بتأيدٍ اكبر للفلسطينيين ، مطالبتها بإتخاذ مواقف عملية ليس أقلّها دعم المقاومة الفلسطينية بالمال والسلاح الامر الذي يزجّها في نزاع مقلق مع الولايات المتحدة ,
الى ذلك ، فإن اي دعم عربي او اسلامي فعال للفسطينيين في صراعهم مع "اسرائيل" يتطلب ، اولاً ، إتفاقاً بين الفلسطينيين انفسهم وتفاهماً بين الدول العربية ولا سيما النافذة منها . والحال ان الفلسطينيين اخفقوا في تحقيق وحدتهم الوطنية حتى الآن بدليل عزوف محمود عباس عن زيارة القطاع بعد التفجيرات التي تعرّضت لها منازل قادة "فتح" في غزة . اما الدول العربية فإن خلافاتها ومطامحها بخصوص ازمات سوريا والعراق واليمن وليبيا تجعل من تفاهمها على خطة عملية لحماية الحرم القدسي امراً مستبعداً .
في ضوء هذا الواقع المؤلم ، سيبقى الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي قومياً على الارض وإسلامياً في الإعلام ليس إلاّ...