نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 4/3/2019
إبراء أهل النظام الطوائفي مستحيل ...
فما العمل ؟
د. عصام نعمان
تابَعَ ، ولا اقول استمتع ، اللبنانيون مسؤولينَ ومواطنين ، منذ نحو شهر حلقات مضحكة مبكية من مسلسل "الفساد" الذي لا يعرف احد متى تنتهي حلقاته المتناسلة. فالفساد حالة لبنانية عمرها من عمر النظام الطوائفي المركانتيلي منذ مأسسته على ايدي المستعمرين الفرنسيين العام 1920 وتوريثه ، بعد "الإستقلال" العام 1943، لمتزعمي الطوائف كابراً عن كابر الى ان انتهى في قبضة شبكة سياسية متحكّمة مؤلفة من هؤلاء، يشاركهم في تقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ رجالُ اعمالٍ واموال متعطشون الى السلطة وبارعون في استغلالها ، ومتنفّذون في أجهزة الأمن.
تعاظَمَ جمهور مسلسل "الفساد" مع تصاعد شكوى الفقراء وذوي الدخل المحدود من الضائقة المعيشية ، وكوارث النفايات ، وانقطاع الكهرباء والماء ، وتفاقم غلاء الغذاء والدواء ، وتزايد المخاوف والتخويف من إنهيار اقتصادي وشيك نتيجةَ تجاوز الدين العام عتبة المئة مليار دولار.
المسؤولون عن الفساد ثلاث فئات : المرتكبون ، والمستفيدون ، والساكتون عن هؤلاء وأولئك . ازاء تعاظم شكوى المتضررين من الفساد، وهم اكثرية اللبنانيين ، إستشعر الساكتون خطورة تخلّي قاعدتهم الشعبية عنهم – وجلُّها من ضحايا الفساد – فقرروا فتح ملفات الفساد المزمنة لتحديد الفاسدين وتحميلهم المسؤولية القانونية والسياسية .
في مقدّم الساكتين عن الفساد دونما المشاركة فيه او الإستفادة منه قادةُ حزب الله . مردُّ سكوتهم إنشغالُهم بما يعتبرونه الاولوية الاولى : مقاومة العدو الصهيوني . لكن مع تعاظم شكوى قاعدتهم الشعبية ، وجلّها من الفقراء وذوي الدخل المحدود ، قرر قادة المقاومة الخروج من الصمت ومطالبة الحكومة عموماً ووزارة المال خصوصاً بإنجاز الكشوفات المتعلّقة بكيفية صرف مليارات الدولارات من إعتمادات ومساعدات وهبات كانت الحكومات المتعاقبة قد امتنعت منذ مطالع العام 1993 عن كشف قيودها وسبل انفاقها.
المتضررون من حملة فتح التحقيق في ملفات الفساد وكشف الفاسدين، وجلّهم من خصوم حزب الله ، سارعوا الى مواجهة العاصفة وتطويق مضاعفاتها القضائية والسياسية بتدابير "وقائية" أبرزها :
-
تصوير الحملة بأنها تستهدف جماعة الحريريين والطائفة التي ينتمون اليها ما ينعكس بالتالي سلباً على الإتفاق الضمني بين التيار الوطني الحر وحزب المستقبل الذي حمل العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وجعل ولادة حكومة سعد الحريري ممكنة بعد تسعة أشهر من الصراعات والمماحكات .
-
الترويج لمقولةٍ مفادها إن حملة التحقيق والتدقيق في ملفات الفساد والفاسدين تستهدف جميع من تولّى السلطة وشارك في حكومات الرئيس الراحل رفيق الحريري ونجله وحلفائه وذلك بقصد تخويف هؤلاء جميعاً ودفعهم الى التكاتف في مواجهة الحملة الخطيرة الماثلة .
(ج) الدعوة الى توسيع دائرة التحقيق لتتناول جماعة المقاومة الذين "ورطوا" (كذا) لبنان العام 2006 بحرب مع "اسرائيل" لا طاقة له على تحمّل مفاعيلها من جهة ، ومن جهة اخرى تلقّوا هبات ومساعدات أغدقها متعاطفون مع اللبنانيين في محنتهم وقاموا بصرفها بمنأى عن رقابة الهيئات الحكومية ذات الصلة.
بات واضحاً ان جوهر مسألة الفساد هو التصرف بمليارات الدولارات ، بحق او بغير وجه حق ، دونما إجازةٍ من مجلس النواب او مجلس الوزراء وعلى نحوٍ مخالف للقانون وللقواعد المحاسبية المرعية الإجراء .
إزاء إنكشاف المسؤولين عن صرف تلك المليارات من الدولارات دونما إعتماد الاسانيد القانونية والأدلة الثبوتية المتوجبة ، سعى المشتبه بفسادهم وإهدار المال العام الى تبرير افعالهم بسؤ الظروف الامنية والسياسية التي حالت دون إقرار قوانين الميزانيات السنوية المتوجبة ما أدّى الى عدم قيد المساعدات والهبات الواردة في ابوابها ولا الى ضبط وجوه إنفاقها.
الى اين من هنا ؟
يقول بعض منظّري الشبكة السياسية المتحكّمة إن المرتكز الاساس للنظام الطوائفي القائم ليس الدستور ولا القوانين ولا الأنظمة المرعية الإجراء بل التوافق بين متزعمي الطوائف وحلفائهم من رجال اعمالٍ واموال ، وان هؤلاء يدركون مخاطر الإسترسال في حملة مكافحة الفساد وملاحقة الفاسدين لأن من شأنها تعريض نظام المحاصصة الطوائفي ذاته ومصالح اهله والمستفيدين منه الى الإنهيار . ذلك يستوجب ، في تقديريهم، مبادرة اركان الشبكة المتحكّمة الى التحاور والتفاهم على مخرج من الأزمة ، ازمتهم ، يكون بمثابة تسوية لحماية النظام وإعادة إنتاجه حتى لو إقتضى الامر تقديم بعض الضحايا والتضحيات والتنازلات.
يبدو أن عدم وجود معارضة وطنية تقدمية موحّدة ، نقيضة للنظام وقادرة على ازاحته وبناء نظام بديل ، سيمكّن اركان الشبكة المتحكّمة من اجتراح تسوية للصراعات والإختلالات محورُها معادلة منقّحة للمحاصصة تحمي مصالح اهل النظام من جهة ، ومن جهة اخرى تسترضي جمهور الفقراء وذوي الدخل المحدود وما تبقّى من الطبقة الوسطى ببضع عطايا وتقديمات ومساعدات.
تسوية كهذه ممكنة وقابلة للاستخدام بعض الوقت ، لكنها لن تشكّل إبراءً لأهل النظام الطوائفي المركانتيلي الفاسد من شرور ارتكاباتهم . الإبراء الكامل مستحيل .
ما العمل ؟
لا خيارَ مجدياً امام القوى الوطنية التقدمية إلاّ تفعيل نهج المعارضة الشعبية الجدّية المتواصلة بنَفَس طويل بغية تحقيق أهداف ثلاثة :
اولاً ، العمل على إنجاز مستوى عالٍ من التضامن والتنسيق كشرط للإرتقاء الى جبهة عريضة تحتضن كتلة شعبية وازنة.
ثانياً ، إسقاط الوهم بإمكانية القضاء على الفساد والفاسدين وبناء الدولة المدنية الديمقراطية بوجود نظام المحاصصة الطوائفي المركانتيلي الراهن.
ثالثاً ، التوافق على إرساء وإلتزام برنامج مرحلي للنهوض وبناء الدولة بأولويات سياسية وإقتصادية واجتماعية واقعية ومتطورة.
... والمناقشة مفتوحة .