• ثمة مقولة رائجة مفادها ان الإنتخابات هي مصدر الشرعية ومعيارها
  • "مطلوب رجل لا يخجل حاضره بماضيه"
  • لبنان بلد الالف مشكلة ومشكلة . مشكلته الاولى بعد الالف انطرحت
  • الإنتخابات في عالم العرب قضية خلافية ومثيرة للجدل دائماً الخلاف لا يقتصر على العرب
  • لبنان ملعب ولاعبون. الملعب هو النظام السياسي ، واللاعبون هم متزعمون في طوائف
  • يمكن تعريف القانون الدولي العام بأنه مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول
مقالات
2017-09-09
بعد إندحار "داعش" : انتعاش الدعوة الى الدولة المدنية

نشرت بجريدة "البناء"

تاريخ 9/9/2017

بعد إندحار "داعش" :

انتعاش الدعوة الى الدولة المدنية

د. عصام نعمان

 

مع اندحار تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام-داعش" في حلب والموصل ودير الزور يتراجع التيار الفكري والسياسي الداعي الى اقامة دولة اسلامية ثيوقراطية ، وينتعش تيار الدعوة الى الدولة  المدنية. دعاةُ الدولة المدنية كثر ، لكنهم منقسمون الى مدارس وتيارات شتى. منهم ليبراليون ، واسلاميون معتدلون ، وعلمانيون متطرفون وآخرون عقلانيون.

يشكّل الموقف من الدين وعلاقته بالدولة مسألةَ الخلاف والإختلاف الرئيسة بين مختلف دعاة الدولة المدنية . فريق من هؤلاء يرفع شعار "فصل الدين عن الدولة". فريق آخر يدعو الى "فصل الدولة عن الدين". ما الفارق بين الشعارين وايهما اكثر إلتصاقاً وبالتالي تعبيراً عن حاجات المجتمعات العربية ؟

يعود تاريخ "فصل الدين عن الدولة" الى زمن انهيار السلطنة (وبالتالي الخلافة) العثمانية في الحرب العالمية الاولى1918-1914 وانبثاق النظام الجمهوري في تركيا على يدّي مصطفى كمال اتاتورك وفريقه من الضباط المتأثرين بالغرب الاوروبي . مفكرون ودعاة اصلاحٍ عرب متأثرون بصعود الليبرالية والحركات القومية في اوروبا من جهة ، ومن جهة اخرى بالماركسية التي انتصرت بالثورة البولشيفية في روسيا ، دعوا ايضاً الى فصل الدين عن الدولة كعلاج للطائفية والمذهبية المتفشيتين في بلدانهم.

دعاةُ فصل الدين عن الدولة من ليبراليين  وقوميين وماركسيين تحوّلوا من خلال تفكيرهم وممارستهم الى دعاة مذهبٍ جديد ، لاديني بل معادٍ للدين. بدا هؤلاء ، بالنسبة الى جمهرة الناس الراتعين في الثقافة الطائفية السائدة ، كأنهم يدعونهم الى الخروج من مذاهبهم كشرط للدخول في مذهب جديد. والحال ان الناس ما كانوا يعانون ازمةً دينية وجدانية بل حالاً اجتماعية انقسامية نتيجةَ استشراء الطائفية بفعل الحكام المستعمرين وادواتهم من السياسيين المحليين . مع ذلك تمكّن العلمانيون بشتى تياراتهم وفئاتهم من بناء تنظيمات قومية واشتراكية متماسكة عابرة للطوائف وقادرة على الفعل والتأثير وعلى الوصول الى السلطة وتحقيق اصلاحات محدودة.

واكب صعود التيارات الليبرالية والعلمانية صعود تيار نقيض تمثّل بالاخوان المسلمين وبأحزاب اخرى اسلامية سلفية. التياران العلماني والاسلامي السلفي ظلاّ متكافئين في الإنتشار الى ان وقعت هزيمة العرب بقيام دولة "اسرائيل" العام 1948 . فقد ثارت نتيجةَ ردود الفعل الغاضبة في سوريا ومصر والعراق شرائح من الضباط الساخطين ، وضعوا ايديهم على هياكل السلطة في بلدانهم وانتهجوا ، بمقادير متفاوتة ، خطاً متعرجاً من التغيير أحدث بعض الإصلاحات إنما اتسم بكثير من التسلّط والتحكّم. مع وقوع الهزيمة الثانية النكراء العام 1967 اهتزت الأنظمة العسكرية واخذت تتهاوى اركانها الواحدة تلو الاخرى الى ان تساقط معظمها مع اندلاع ما يُسمّى انتفاضات "الربيع العربي".

في هذه الاثناء، ونتيجةَ هزيمة العام 1967 ، انتعش التيار الإسلامي السلفي بمختلف فئاته ، وكان بعضها قد تواصل مع الولايات المتحدة التي تجاوبت معه ووجدت في الاخوان المسلمين التنظيم القادر على وراثة نظام حسني مبارك المتهاوي . الى الأخوان المسلمين ، كانت ثمة حركات ودعوات سلفية اخرى متفاوتة في عدائها لليبرالية والعلمانية تنمو وتتحرك ويجد بعضها تجاوباً في بعض دول الغرب الاطلسي.

"اسرائيل" لم تكن بعيدة عن دعم بعض التنظيمات السلفية المتطرفة ، مباشرةً او مداورةً ، وذلك في إطار مخططها القديم الداعي الى تفكيك دول الجوار الى جمهوريات موز متنازعة ، مبنية على اساس قبلي او اثني او مذهبي وعاجزة تالياً عن تشكيل قوة سياسية وعسكرية متماسكة في وجهها . ابرز هذه التنظيمات السلفية واقواها كان "داعش" الذي تمكّن منتصفَ العام 2014 من اعلان "دولة الخلافة الإسلامية " في الموصل التي امتدت على نحو  ثلث مساحة العراق وثلثي مساحة سوريا.

اذ تسقط دولة الخرافة الداعشية في سوريا والعراق، ينتعش مجدداً دعاة الدولة المدنية بشتى مدارسهم وتياراتهم . صحيح ان سقوط "داعش" لا يعني نهاية خط الإسلام السلفي ، المعتدل والمتطرف. ذلك ان بعض القوى والتنظيمات المنتصرة عليه ينادي ايضاً بدولة اسلامية ، وبعضها الآخر بدولة مدنية ذات مرجعية اسلامية (؟). غير انه من الاكيد ان غالبية القوى المنتصرة على "داعش" وامثاله لا تؤمن بشعار فصل الدين عن الدولة . هذا الواقع يضع انصار الدولة المدنية امام تحدٍّ ماثل يقتضي التعامل معه بكثير من الجدّية والمرونة في آن .

لعلني من اوائل الداعين الى الإستعاضة عن شعار "فصل الدين عن الدولة" بشعار ، بل بحركة ، فصل الدولة عن الدين . ذلك ان الدولة ، بما هي مسرح اهل السياسة واداتهم ، هي التي تستخدم الدين في عالم العرب وتوظف رجاله واشياخه وحتى علمائه لأغراضٍ سياسية وليس العكس.

الدين حاجة روحية كيانية لا يمكن إلغاؤه بل لا سبيل الى فصله عن مختلف مناحي الحياة. غير ان الدين كإيمان لا يتطلّب  من المؤمنين  بالضرورة التدخل في السياسة  او تعاطيها . صحيح انه يمكن ، وربما يجب، استلهام قيم الدين ومثله العليا في العمل العام ، لكن ذلك لا يستوجب استخدام رجال الدين والعصبيات الدينية في السياسة والحكم.

الى ذلك ، فإن الإسلام دين وايمان وليس مؤسسة متكاملة ومتماسكة. صحيح انه ينطوي على مؤسسات ، كالوقف مثلاً، لكنه ليس كالمسيحية مؤسسة متكاملة لها تقاليدها واجهزتها ورجالها (الاكليروس) وسياستها. الكنيسة في بلدان اوروبا دخلت في منافسة بل في صراع مع الدولة في ادارة الشأن العام لأنها كانت مؤسسة ضخمة ، متكاملة ، لها سياستها وجيش من العاملين من اجل تحقيق اهدافها ومصالحها. لذلك كان من الطبيعي ان تتصارع الدولة في حمأة المنافسة مع الكنيسة كمؤسسة متكاملة تزاحمها على ولاء الاتباع وابتغاء المصالح والمغانم ، وان تنجح في فصلها عنها ، اي عن السياسة الممارسَة في مؤسسات وادارات واجهزة تُعنى بالشؤون العامة.

لا كنيسة في الإسلام ، اي لا مؤسسة واحدة متكاملة ومتماسكة ، ولا اكليروس تالياً ولا مجال لمنافسة الدولة على ولاء الاتباع والمواطنين . من هنا تستقيم الدعوة ليس الى فصل الدين عن الدولة بل الى فصل الدولة عن الدين بما هو ايمان وجداني يتجلّى في عقائد وطرائق مختلفة تُمكن ممارستها دونما تدخلٍ من الدولة. هذا من جهة ، ومن جهة اخرى فإن فصل الدولة عن الدين ، اي عن التدخل في شؤون الناس الخاصة وفي الامتناع عن استخدام الدين ورجاله والعصبيات الدينية في الأنشطة والقضايا السياسية ، يُحقق حياد الدولة بين المذاهب الدينية ويكفل التعايش الاجتماعي فيما بينها ، ولاسيما في المجتمعات التعددية .

اجل ، مطلوب دولة مدنية لا تعتنق مذهباً دينياً معيناً ، ولا تتعاطى الامور الدينية ، ولا تستخدم العصبيات الدينية والمذهبية في الشؤون العامة وفي برامجها الاقتصادية والاجتماعية والتنموية.

مطلوب دولة مبنيّة على اسس الحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية.

 

رجوع