الحرب على الإرهاب تؤشر لنظام عالمي مغاير د. عصام نعمان
د. عصام نعمان
اندلعت الحرب على الإرهاب ، في مرحلتها الاولى ، بهجوم الولايات المتحدة على افغانستان انتقاماً لقيام "القاعدة" بتدمير برج التجارة الدولية في نيويورك صباحَ 11/9/2001 . كرّس مؤتمرا جدة وباريس المنعقدان خلال شهر سبتمبر/ايلول 2014 المرحلة الثانية من الحرب على الإرهاب المقدّر لها ان تستمر ، بحسب تصريحات الرئيس الاميركي باراك اوباما ، اكثر من ثلاث سنوات.
الحرب على الإرهاب حربٌ عالمية تنخرط فيها بمستويات متفاوتة نحو اربعين دولة ، ويتركّز جهدها الرئيس على تنظيم "الدولة الإسلامية – داعش" في العراق ، وقد يستهدف ايضاً مواقعه في سوريا كما يُستفاد من اقوال وزير الدفاع تشاك هايغل ورئيس هيئة اركان الجيوش الاميركية الجنرال مارتن ديمبسي امام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ.
تتزامن الحرب على الإرهاب مع الإنهيار المتدرج للنظام العالمي الذي كشفته الازمة الإقتصادية في الولايات المتحدة صيفَ العام 2007 وانتقلت تالياً الى سائر دول العالم . هنري كيسنجر يعترف في كتابه الجديد "النظام العالمي" World Order بهذا الإنهيار ويقول إن نظاماً جديداً ينمو ويتبلّور في غمرة تحديات متنوعة ومتشابكة ، وان ابرز هذه التحديات واكثرها تعقيداً تلك التي تدور في الشرق الاوسط . ويحذر كيسنجر من انه لن تقوم قائمة لنظام دولي لا يجمع "القوة الى المشروعية".
انهيار النظام العربي سبق انهيار النظام العالمي بنحو اربعين عاماً . فقد ادت هزيمة العرب في حرب 1967 الى إختلال كبير في موازين القوى الإقليمية لمصلحة "اسرائيل" ، كما ادت الى نشؤ ظاهرتين متلازمتين : تراجع مطّرد للتيار القومي والدولة الوطنية في شتى أنحاء الاقليم ، وصعود متدرج للتيار الإسلامي بمختلف تلاوينه ولا سيما جماعة الاخوان المسلمين .
حرصت الولايات المتحدة على احتضان ورثة التيار القومي الناصري بشخص انور السادات في مصر وشجعته على مفاوضة "اسرائيل" ومصالحتها من جهة، كما على إلانفتاح على الاخوان المسلمين واشراكهم في الحياة السياسية من جهة اخرى.
في هذه الأثناء قامت الثورة الإسلامية في ايران وانفتحت على قوى المقاومة في التيار الإسلامي المشرقي ولا سيما في فلسطين ولبنان . نمو قوى المقاومة العربية حجماً وفعالية اثار مخاوف "اسرائيل" وبالتالي الولايات المتحدة التي تصدّت للمقاومة الصاعدة بدعم حلفائها من الحكام المحافظين وبإحتلال العراق العام 2003 في سياق مخطط صهيوني يرمي الى تفكيك دول الجوار الى جمهوريات موز هزيلة على اسس قبلية ومذهبية وأثنية .
لم تستطع الفئات الحاكمة في اقطار عربية عدّة مواجهة تداعيات انهيار النظام العربي رغم الدعم الاميركي ، فكان ان تصدّعت نُظُم الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن ، واضطربت سوريا سياسياً وامنياً قبل ان تنتهز تنظيمات اسلاموية ارهابية الفرصة المتاحة لإسقاط النظام والإستيلاء بالعنف على السلطة بدعم من دول عربية محافظة.
ناصرت الولايات المتحدة الاخوان المسلمين وحلفاءهم في تونس وليبيا واليمن ، وكان لها دور فاعل في تمكينهم من ممارسة السلطة في مصر مدة عام كامل قبل ان تتحرك القوات المسلحة ، ذراع الدولة العميقة ، مترسلمةً على سخطٍ شعبي جارف ودعمٍ من السعودية وبعض دول الخليج ، لإزاحتهم وكسر شوكتهم .
في موازاة صعود التيار الإسلامي الاخواني في مصر وتونس وليبيا واليمن، كان التيار الإسلامي المقاوم ينهض ويصعد في لبنان وفلسطين . ففي لبنان تمكّنت المقاومة الإسلامية ( حزب الله ) من صدّ عدوان "اسرائيل" الواسع العام 2006 ودحرها لاول مرة في تاريخ الصراع العربي – الصهيوني ، كما تمكّنت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" من دحر العدوان الإسرائيلي على غزة العام 2012 والعام 2013 والعام 2014. وفي العدوان الاخير سجّـل الشعب وقوى المقاومة انتصارات استراتيجية لافتة بالصمود 50 يوماً وقصف مواقع العدو ومستعمراته على مستوى فلسطين المحتلة كلها من الجنوب الى الشمال.
اذ يبزغ ببطء نظام عالمي مغاير على انقاض النظام العربي المنهار ونتيجةَ تداعيات الأزمة الإقتصادية في الغرب ، يثور سؤال: ما ملامح هذا النظام الذي يؤكد كيسنجر ان ابرز تحدياته تلك التي تواجهه في الشرق الاوسط ، اي في عالم الإسلام الممتد من المغرب العربي الى اصقاع افغانستان وباكستان مروراً بوادي النيل وبلاد الشام وبلاد الرافدين وايران وجزيرة العرب ؟
لعل ابرز الملامح المرصودة في هذا المجال الإضعافُ المطّرد لبنى الدولة وتفكيكها وإقامة كيانات داخلها لها بعض صفات الدولة ومقوّماتها ، ونجاحها تالياً في الحلول محل الدولة في بعض مناطق اقليمها والنهوض ببعض مهامها. فالإنتفاضات الشعبية الفلسطينية المتتالية ادت الى نشؤ منظمة التحرير الفلسطينية . وقد ادى كفاحها بالإضافة الى المفاعيل السياسية لإتفاقات اوسلو العام 1993 الى جعلها كياناً سياسياً يحاكي في بعض وجوهه منظومة الدولة المعاصرة . الظاهرة نفسها تكررت في قطاع غزة حيث ادت سيطرة حركة "حماس" وتنظيمات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها الى نشؤ كيان فلسطيني توأم لكيان رام الله يحاكي في بعض مواصفاته ومؤسساته وممارسته منظومة الدولة المعاصرة.
ظاهرة "الكيانية" تتبدى بشكل واضح في لبنان . فقد ادى انهيار الدولة نتيجَةَ حرب "اسرائيل" والإحتلال العام 1982 وعدم نهوضها بعد إنحساره عن معظم اراضيها الى نشؤ كيان مقاوم في جنوب لبنان ناب عن الدولة في مقاومة "اسرائيل" في الشريط الحدودي المحتل لغاية اكراهها على الجلاء العام 2000. كما تمكّن خلال حرب "اسرائيل" الثانية على لبنان العام 2006 من نقل الحرب الى ارض العدو ما ادى الى دحر العدوان. واذ اصبح له قوة عسكرية ذات تأثير اقليمي ، شارك لاحقاً في الحرب الدائرة في سوريا وعليها .
الى ذلك ، لحركة "طالبان" كيان سياسي وعسكري يتحكم بمناطق عدة في افغانستان ويقاتل بلا هوادة قوات دول حلف "الناتو". كذلك الامر في الصومال حيث لتنظيمٍ اسلامي شبابي كيان عسكري وسياسي يقاتل "الدولة" القائمة والمدعومة من دول كبرى ومتوسطة اميركية واوروبية واسلامية.
هذه الكيانات التي تحاكي في بعض مواصفاتها ومؤسساتها الدولة المعاصرة باتت تشكّل ظاهرة راسخة في حاضر العلاقات الدولية وتترك آثارها في قواعد القانون الدولي واحكامه . فدول العالم ، كما المنظمات والمؤسسات الدولية السياسية والإقتصادية والإنسانية ، تجد نفسها مضطرة الى التعامل مع الكيانات الناشئة وتقيم معها علاقات وتعقد اتفاقات . إن إتفاق التهدئة الاخير بين حركة "حماس" وحليفاتها من جهة و"اسرائيل" من جهة اخرى مثالٌ ساطع على اضطرار مجتمع الدول الى تسويغ التعامل والتعاقد مع هذه الكيانات في ظروف استثنائية .
ظاهرة الكيانات المتنامية في العالم المعاصر ، ولاسيما في غمرة الحرب العالمية على الإرهاب ، تترك آثارها بإطراد في القانون الدولي العام وتستولد علاقات إقليمية وأممية مغايرة . وقد يتوسع مسار التغيّر والتطور في العالم المعاصر الى درجة يحمل معها مجتمع الدول والكيانات المتنامية في النظام العالمي المغايـر على تطوير القانون الدولي العام الى القانون العام للدول والكيانات ...