جريدة "الخليج"
16/8/2014
الكبار والصغار يسلّمون بأولوية خطر الإرهاب
د. عصام نعمان
من بين الخلافات (وبالتالي الصراعات) التي حفل بها المشهد الإقليمي من الشواطىء الشرقية للبحر المتوسط الى جبال تورا بوار الأفغانية ، احتل الجدل منذ مطالع القرن حول الخطر الاول الذي يواجه دول المنطقة وشعوبها المرتَبة الاولى الولايات المتحدة و"اسرائيل" وبعض دول اوروبا والخليج اعتبرت ايران وقوى المقاومة التي تحالفها هي الخطرَ الاول سوريا وايران ولبنان وقوى المقاومة اللبنانية المتحالفة معها اعتبرت "اسرائيل" الخطرَ الاول ثم ما لبثت هذه الدول ، مع تصاعد العنف الاعمى الذي وَسَم ممارسات بعض تنظيمات "الإسلام الجهادي" ، ان اعتبرت الإرهاب خطراً موازياً لخطر "اسرائيل" إن لم يكن رديفاً له
تحديان بزغا اخيراً حملا كبار الفريقين المتصارعين وصغارهم على تعديل موقفهم فقد أوجدا أرضية مشتركة بينهم هي اعتبار الإرهاب الخطر الاول الذي يواجه دول المنطقة وشعوبها حالياً التحدي الاول هو الصعود المتسارع لتنظيم "الدولة الإسلامية – داعش" في محافظات غرب العراق : الانبار وصلاح الدين ونينوى ، مدينة الموصل تحديداً ، وإعلانه "دولة الخلافة الإسلامية" فيها ، ومن ثم توسعه بإتجاه مناطق اقليم كردستان العراق كما بإتجاه محافظة ديالي وبغداد العاصمة التحدي الثاني تجلّى بقيام "اسرائيل" بشن حرب شاملة ، برية وجوية وبحرية ، على قطاع غزة بقصد إنهاء وجود المقاومة فيها، لاسيما حركتي "حماس" والجهاد الإسلامي "، ما يؤدي في حال نجاحه الى تصفية قضية فلسطين
الولايات المتحدة وحلفاؤها الاقليميون قرأوا في صعود "داعش" وتوسعه خطراً على مصالحهم ليس في العراق فحسب بل في سائر دول المنطقة ايضاً فقد صدرت بيانات وتصريحات عن قادة "داعش" تشير الى ان "دولة الخلافة" التي يحمل لواءها تضم ، الى العراق ، سوريا ولبنان والاردن والكويت كذلك تخوفت السعودية من ان تؤدي سيطرة "داعش" على العراق الى تعزيز تنظيمات "القاعدة" في سائر انحاء الجزيرة العربية
ايران التي استشعرت باكراً استعداء "داعش" الجماعات الشيعية في بلاد الرافدين وبلاد الشام تخوفت ايضاً من ان تشجعه سيطرته على العراق على التطلع الى تحريك الجماعات المعادية لنظام الجمهورية الإسلامية في ايران نفسها ولا سيما في مجتمعات البالوتش والعرب والكرد من اهل السنّة كذلك فقد تخوفت سوريا كما لبنان من ان يؤدي صعود "داعش" وسيطرته على بعض مناطقهما الى قيام تعاون بينه وبين "اسرائيل" ألم يُنسب الى احد قيادييه قوله إن ثمة حديثاً نبوياً يجيز تقديم الجهاد ضد العدو الاقرب على الجهاد ضد العدو الابعد ؟!
الى ذلك ، تخوفت حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا من ان يؤدي صعود "داعش" الى ترجيح كفة القائلين في عالم العرب بأولوية خطر ايران على خطر "اسرائيل" ما يؤدي تالياً الى تغوّلها ضد الجميع ، عرباً وعجماً كذلك فقد تخوفت مصر من ان يؤدي صعود "داعش" الى تعزيز اوضاع الجماعات الإسلامية المتطرفة والإرهابية الناشطة في سيناء خطر هذه الجماعات سيكون مضاعفاً اذا ما اجاز "داعش" لنفسه ان يتعاون مع "اسرائيل" ضد من يعتقد انهم يشكّلون على مستوى العرب عموماً الخطر او العدو الاقرب الأَوْلى بالجهاد والمكافحة
يبدو واضحاً ان كبار اللاعبين كما صغارهم يعتبرون "داعش" الخطر الاول في المنطقة ، وقد ترجموا موقفهم في العراق حيث تمّ اقصاء نوري المالكي بصورة شبه "ديمقراطية" عن رئاسة الحكومة بتسمية واحد من اعضاء كتلته ، حيدر العبادي ، رئيساً مكلفاً تشكيل حكومة جديدة لتوحيد مكوّنات البلاد الوطنية في وجه "داعش" وقد جرى تدبّر الامر بقيام مجموعة وازنة من "ائتلاف دولة القانون" بتأييد العبادي ما يمكّنه ، بالتعاون مع اطراف آخرين في "التحالف الوطني" وجماعة مقتدى الصدر
و"عصائب اهل الحق" والنواب الاكراد ، من تكوين اكثرية تزيد عن النصف زائدا واحداً في البرلمان وكان المالكي يعدّ لمواجهة هذا الإنقلاب السياسي دستورياً امام المحكمة الإتحادية وامنياً بقوات الجيش والشرطة الموالية له لولا ان الولايات المتحدة وايران والسعودية وغيرها سارعت الى تهنئة خلفه فأدرك ان ما كُتب قد كُتب ولا سبيل الى الرد
في فلسطين المحتلة ، تمكّنت فصائل المقاومة من الصمود في قطاع غزة بوجه "اسرائيل" اكثر من ثلاثين يوماً ما ادى الى تثبيت اولوية خطر الكيان الصهيوني في المنطقة فشلُ "اسرائيل" في تحقيق اهداف عدوانها الهمجي ضخَّ مزيداً من الصدقية والقوة في عروق قوى المقاومة العربية كما أفرغ مقولة اولوية الخطر الإيراني من حيثياتها المصطنعة واكره امريكا على مطالبة "اسرائيل" بقبول وساطة مصر من خلال مفاوضات غير مباشرة مع وفد فلسطيني موحد مع اندحار "اسرائيل" على اطراف قطاع غزة ، امكن لقوى المقاومة العربية ان تساوي بين اولوية خطر "داعش" واولوية خطر "اسرائيل" على نحوٍ اصبح الاول رديفاً للثاني
الولايات المتحدة لا توافق على هذه المعادلة المستجدة ، لكنها مضطرة الى التعامل مع مفاعيلها ، وخصوصاً في سياق خلافها "النووي" مع ايران ما من شيء يشير الى وجود صفقة متكاملة بين واشنطن وطهران تتناول القضايا العالقة بينهما في المنطقة سواء بشأن العراق او سوريا او لبنان او فلسطين او سواها غير ان كلاًّ منهما يحاول توظيف اولوية خطر "داعش" لمصلحته بشكل او بآخر
السعودية تبدو في حال تنسيق تام مع الولايات المتحدة في شأن العراق ، لكن ما من شيء ملموس يشير الى ان إقرارها بأولوية خطر "داعش" في هذه المرحلة سينسحب بمفاعيله على موقفها من سوريا اما في لبنان فقد ادركت الرياض بسرعة مخاطر هجمة "داعش" الاخيرة التي ألحقت ضرراً كبيراً بجهتين حليفة وصديقة: جماعة اهل السنّة كون عرسال التي اجتاحها "داعش" بلدة سنيّة موالية لحليفه "حزب المستقبل" (سعد الحريري) ، والحكومة اللبنانية التي اختطف "داعش" اكثر من عشرين عنصراً من جيشها ذلك حمل الرياض على ايفاد الحريري الى لبنان مدججاً بمبلغ مليار دولار لدعم الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي وترميم اوضاع جماعته
حتى قبل ان تخطو السعودية هذه الخطوة اللافتة ، كشف استطلاعٌ للرأي اجرته مؤسسة " الدولية للمعلومات" المستقلة ما بين 19 و 30 يوليو/تموز الماضي ان 46 في المئة من اللبنانيين يعتبرون المجموعات الإسلامية المتطرفة مصدرَ التهديد الاكبر للامن والإستقرار في البلاد بينما اعتبر 5 في المئة فقط ان ايران هي مصدر التهديد الاول
هكذا يتضح ان لبنان الصغير ، شانه شأن سائر الصغار وقبلهم الكبار ، يعتبر الإرهاب الخطر الاول الداهم عليه وعلى سائر دول المنطقة