جريدة "الخليج"
تاريخ 19/7/2014
توازن الردع يؤشر الى حرب استنزاف طويلة
د عصم نعمان
لا أفق لوقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية في غزة و"اسرائيل" السبب الرئيس ان ما من طرف في الصراع بمقدوره كسر ارادة الآخر "اسرائيل" لم تتمكن في جولات الصراع السابقة من كسر ارادة المقاومة كانت تنجح في ليّ ذراعها فقط وكان ذلك كافياً ، في غياب دعم عربي وازن لها ، لحملها على قبول هدنة مؤقتة اطلق عليها الطرفان تسمية "تهدئة"
بعد حرب "الجرف الصامد" الإسرائيلية والرد الفلسطيني عليها بحرب "البنيان المرصوص" ، تغيّرت قواعد اللعبة ما عاد في وسع "اسرائيل" لا كسر ارادة الفلسطينيين ولا حتى ليّ ذراعهم بالعكس ، اصبح في وسع المقاومة ، وقد جهزت نفسها ببنية عسكرية مؤثرة فوق الارض وتحتها ، الإرتقاء في فعاليتها القتالية الى حد التأثير في الذراع الإسرائيلية الضاربة وربما الوصول الى ليّها ذلك ان شبكة الأنفاق التي تغطي قطاع غزة برمته وتحتضن القياديين والمقاتلين والصواريخ والعتاد والمؤن والادوية ، اتاحت للمقاومة بناء قدرات فاعلة شكّلت ، بالتأكيد ، توازن ردع جديداً ومتقدّماً إزاء "اسرائيل"
القاهرة لم تدرك ، على ما يبدو ، هذا التطور الإستراتيجي المستجد وتأثيره في موازين القوى بين الطرفين لو كانت تدركه لما تقدّمت بمبادرتها غير المتوازنة ثم انها بالغت في تقدير تأثيرها على قادة فصائل المقاومة في القطاع فهي لم تكتفِ بعدم استشارتهم في بنود مبادرتها فحسب بل صاغتها ايضاً على نحوٍ يعيد الوضع الى ما كان عليه قبل اندلاع الحرب كأن شيئاً لم يكن او يستوجب المعالجة وإعادة النظر بالترتيبات الامنية السابقة والمتهافتة
الى ذلك ، ثمة فجوة واسعة بين اهداف الطرفين المتصارعين ومرتجياتهما من الحرب "اسرائيل" تريد تجريد قطاع غزة من السلاح بمنع المقاومة من ترميم بنيتها العسكرية التحتية، ولاسيما ترسانتها الصاروخية، وازالة الأنفاق داخل القطاع وبينه وبين مصر لضمان عدم نقل مكوّنـات الصواريخ لتجميعها او لصنعها، وحلّ سلطة "حماس" في القطاع وإخضاعه للسلطة الفلسطينية في رام الله بإختصار ، تريد "اسرائيل" ان ينشأ ، نتيجةَ الحرب والتهدئة التي تليها، قيام ميزان ردع يحول دون اطلاق الصواريخ والهجمات لمدة طويلة من الزمن
في المقابل ، تريد فصائل المقاومة رفع الحصار عن قطاع غزة نهائياً ، وفتح المعابر جميعاً ، وتوقف هجمات الجيش الإسرائيلي على السكان المدنيين ، ولا سيما المزارعين ، وإطلاق الموقوفين الإداريين ، ولا سيما الاسرى المحررين بموجب صفقة شاليط في اكتوبر/تشرين الاول 2011 الذين اعادت "اسرائيل" اعتقالهم خلال الشهر الماضي بإختصار ، تريد المقاومة ان ينشأ نتيجةَ الحرب والتهدئة التي ستعقبها وضعٌ امني وسياسي جديد يستطيع الفلسطينيون معه العمل لبناء دولتهم المستقلة بمأمن من شرور الإستيطان والإحتلال الإسرائيليين
اذ يتبدّى اتساع الفجوة بين اهداف الطرفين ومرتجياتهما فإن قبول ايِّ مبادرة تسووية من طراز تلك التي اقترحتها القاهرة يبدو صعباً إن لم يكن مستحيلاً الى اين من هنا ، اذاً ؟
أرى ان لا بديل مما هو جارٍ حالياً إلاّ المزيد من الشيء نفسه ، اي المزيد من الحرب في محاولةٍ من كلا الطرفين لمضاعفة الضغوط املاً في ان يتمكّن احدهما من ليّ ذراع الآخر ودفعه الى القبول بمخرج يؤمّن شروطه الأمنية لذلك ستضاعف "اسرائيل" حربها المدمرة ضد البشر والشجر والحجر ستقتل المزيد من المدنيين الأبرياء املاً في ان يشكّل ذلك ضغطاً على القيادات لحملها على الرضوخ لمنطق القوة ستحاول القيام بهجمات برية اختراقية لإقامة جيوب عسكرية في شمال القطاع وجنوبه كما على طول "حدود" القطاع من شماله الى جنوبه ستستخدم اسلحة البر والجو والبحر بلا هوادة ، مستغلةً واقعة رفض المقاومة لأي تسوية تساوي بين الضحية والجلاد او تعيد القطاع ، شعباً ومقاومة، الى حال ما قبل اندلاع الحرب
المقاومة ستثابر على المواجهة بإقتدار مترسملةً على ميزتين : معجزة صمود الشعب وتمسكه بأهداف المقاومة ، وقوة فلسطينية متنامية مصدرها كفاءات ومواهب شعبية متفجرة ، وقدرات عسكرية استراتيجية مميزة ارتقت بالمقاومة من مستوى تلقّي الأسلحة النوعية الى مستوى صنعها بتقانية لافتة أليس إمطار مدن اسرائيل الكبرى ومرافقها الإستراتيجية من شمال فلسطين المحتلة الى جنوبها بمئات الصواريخ دليلاً ساطعاً على اقتدار نوعي متصاعد ؟ ثم من قال إن مفاجآت المقاومة تقتصر على وصول صواريخها الى كل هذه المسافات والاهداف ؟ هل كثير عليها ، وقد رأينا منها ما رأينا ، إبداع مفاجآت نوعية خارقة في قابل الأيام تُكره نتنياهو وفريقه العنصري على إعادة النظر في ما ذهب اليه من وحشية وإجرام ؟
لعل أقوى وأفعل وأروع مفاجأة نوعية يمكن ان يصنعها شعب فلسطين لنفسه ولعدوه هو قيام قياداته السياسية المختصة بإلغاء اتفاق التنسيق الأمني مع "اسرائيل" وتوقيع "اتفاق روما" ، اي معاهدة اعتماد المحكمة الجنائية الدولية
بهذا القرار التاريخي يفجر شعب فلسطين الإنتفاضة الثالثة بل المقاومة الشعبية الفاعلة التي ستُكره "اسرائيل" على القتال على جبهتين : القطاع والضفة بل هو يؤدي ، عاجلاً او آجلاً ، الى تثوير عرب فلسطين العام 1948 بذلك يجد قادة اسرائيل انفسهم امام ثورة شعبية تلف فلسطين من النهر الى البحر ومن الشمال الى الجنوب
قد يبدو هذا المشهد بعيد المنال ، لكنه بالتأكيد ليس فوق العقل غير ان كل تأخير في تحقيقه يعني امراً واحداً : المزيد من الإستنزاف للفلسطينيين بل للعرب اجمعين