القدس العربي و البناء
تاريخ 23/6/2014
اميركا تناهض "داعش" وتعادي اعداءه
د. عصام نعمان
ليس ثمة خريطة واضحة للتحالفات والإصطفافات السياسية والامنية في مشرق العرب ثمة تداخل وتعارض في آن بين سلوكيات اللاعبين الكبار واللاعبين الصغار وتحركاتهم في المنطقة بعدما اصبحت او كادت ساحةً واحدة لصراعات عدّة متزامنة من الساحل الشرقي للبحر المتوسط الى جبال افغانستان ، مروراً بسوريا ولبنان والعراق وتركيا ومصر وايران ولن يطول الزمن قبل ان تعصف بالاردن و"اسرائيل" ودول شبه جزيرة العرب احداث مماثلة
من يستطيع ، مثلاً، الجزم بأن الولايات المتحدة عدو فعلي لتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) وليست حليفاً ضمنياً له ؟ فهي تناهضه في بلاد الرافدين بدليل انها تدعم ، ولو ببطء ورفق وعونٍ محدود ، حكومة نوري المالكي ، لكنها لا تناهضه في بلاد الشام بدليل انها تعادي وتناهض اعداءه بلا هوادة ، اي سوريا وايران وحزب الله
مَن يستطيع الجزم بأن دول الخليج تناهض "داعش" فعلاً طالما هي تعادي عدوه ، حكومة المالكي ، كما يشارك بعضها بمناهضة اعدائه الفاعلين ، سوريا وايران وحزب الله ؟
هل تخشى "اسرائيل" ، كما تدّعي ، من تداعيات سيطرة "داعش" على سوريا ام تسلّم بأن سوريا ، حليفة حزب الله ، اخطر على امنها القومي من "داعش" وحلفائه ؟
هل يدعم رئيس اقليم كردستان مسعود البرزاني حكومة العراق الإتحادية في بغداد ضد تنظيم "داعش" ام يهادنه مؤملاً بأن تكون هجمته عليها مساعِدة له في إحكام سيطرته على محافظة التأميم (كركوك) بعد "عودتها الى اقليم كردستان العراق" ، على حد قوله ؟
هل يعتبر المالكي الولايات المتحدة حليفاً بعد تعهدها بإرسال نحو 300 مستشار عسكري لدعم الجيش العراقي في حربه على "داعش" ام يبقى متشككاً في نياتها بدليل شكواه من عدم قيامها بتسليم العراق طائرات "اف 16" الـ 36 التي سبق ان اشتراها منها الامر الذي اضطره الى شراء طائرات مستعملة من روسيا وطائرات سوخوي من بيلاروسيا "لأنها تنفع في حرب العصابات" ، على حـد قوله ؟
هل تعتبر تركيا "داعش" تنظيماً ارهابياً ؟ وهل هي صادقة حقاً في مناهضته وبمنع "الجهاديين" القادمين من الخارج من التسلل الى العراق وسوريا عبر حدودها وهي التي لها مصلحة في سيطرة "داعش" على آبار النفط في سوريا والعراق وقيامه بتصدير انتاجها الى تركيا او عبر موانئها الى الخارج ؟
مَن ضد مَن في مشرق العرب حقاً ؟
سيمضي وقت طويل قبل ان يتمكّن احد من تحديد التحالفات والإصطفافات التي يجري بناؤها او هدمها في المنطقة غير ان ذلك لا يحول دون قيام المراقبين بمتابعة سلوكيات اللاعبين الكبار والصغار ومراقبة تحركاتهم وقراءة مدلولاتها القريبة والبعيدة
لعل سلوكية الولايات المتحدة وتحركاتها هما الاكثر مدعاة للحيرة فبعد ان نفى الرئيس اوباما وجود معارضة سورية قادرة على هزيمة الرئيس الاسد (بل وَصَف ادعاءها بأنه "فانتازيا") وتأسّف "لأن ادارته استهلكت وقتاً طويلاً في العمل مع المعارضة المعتدلة" ، تقدّم قبل ايام بطلب من الكونغرس للموافقة على تخصيص 500 مليون دولار من اجل "تدريب وتجهيز" المعارضة المسلحة المعتدلة ! برر اوباما تخصيص المبلغ المرقوم بأنه "لمساعدة السوريين للدفاع عن النفس ، وإحلال الإستقرار في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة ، وتسهيل توفير الخدمات الاساسية ، ومواجهة التهديد الإرهابي، وتسهيل الظروف للتسوية عن طريق التفاوض"
ثمة اسئلة لا مناص من طرحها في هذا السياق :
هل يعقل ان يكفي المبلغ المطلوب لتغطية نفقات كل الاهداف والمهام والعمليات واللوازم التي حددها الرئيس الاميركي ؟!
ما هي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية المعتدلة ؟ ألم يقع معظمها في ايدي تنظيميّ "داعش" والنصرة" اللذين تعتبرهما الادارة الاميركية ارهابيين وبالتالي غير معتدلين ؟
هل "مواجهة التهديد الإرهابي" التي دعا اليها اوباما تعني خوض "المعارضة السورية المعتدلة" الحرب ضد "داعش" و"النصرة" ؟ اذا كان الامر كذلك ، هل تستطيع "المعارضة المعتدلة" محاربة هذين التنظيمين الإرهابيين ومحاربة الجيش العربي السوري والمجموعات المسلحة الرديفة له في الوقت ذاته ؟ ألا يكون المراقب الموضوعي مدفوعاً ، في هذه الحال ، الى استعارة كلمة الرئيس اوباما نفسه في توصيف الامر بأنه مجرد "فانتازيا" ؟!
هل "تسهيل توفير الخدمات الاساسية" يمكن ان يتمّ من دون قيام تعاون بين "المعارضة المعتدلة" والحكومة السورية او حتى مع "داعش و"النصرة" ؟ وكيف يمكن تحقيق هذه المعجزة ؟
هل "تسهيل الظروف للتسوية عن طريق التفاوض" يعني اجراء مفاوضات بين "المعارضة المعتدلة" والحكومة السورية ام يعني ايضاً ضم "داعش" الى هذه المفاوضات ؟ ثم ،متى يمكن تحقيق هذه المعجزة ؟
من تحليل هذه الواقعات والإحتمالات يستطيع المراقب الموضوعي الإستنتاج ان الولايات المتحدة غير قادرة او اقلّه غير جادة في تحقيق ايٍّ من الاهداف والمهام التي اشار اليها الرئيس اوباما ، وان الغاية المتوخاة من وراء طرحها والدعوة (غير الجدية) الى تحقيقها هي تطويل مرحلة استنزاف سوريا والعراق املاً في نشؤ ميزان قوى جديد في كلٍ منهما يساعدها في المستقبل القريب او البعيد على ايجاد تسوية شاملة ومتكاملة للازمات التي تعصف بالمنطقة وذلك بشكلٍ يؤمن مصالحها وامن "اسرائيل"
ما حظ هذه المقاربة الاميركية الملتبسة في النجاح ؟
لا يمكن الجزم في الوقت الحاضر وإن كنتُ اميل الى استبعاد النجاح ذلك انه يُستفاد من تصريحات المالكي الاخيرة ثلاثة امور اساسية :
اولها ، انه بات ضعيف الثقة بجدية الولايات المتحدة في دعم العراق بعد إحجامها عن تسليمه 36 طائرة من طراز "اف 16" كان اشتراها منها ، واشاراته المتعددة الى ضلوع بعض حلفائها العرب والترك والكرد في دعم "داعش" وحلفائه
ثانيها ، ان العراق بادر الى تعويض عدم تسليمه الطائرات الحربية الاميركية بشراء مجموعة من الطائرات المستعملة من روسيا وبيلاروسيا غني عن البيان ان قرار موسكو تزويد العراق اسلحةً ثقيلة ينطوي على دلالة استراتيجية بالغة الاهمية ، اذ من الممكن ان يتطور هذا التعاون بين بغداد وموسكو (وطهران) الى قيام تعاون استراتيجي اوسع بين موسكو من جهة وطهران ودمشق وحزب الله في لبنان من جهة اخرى
ثالثها ، ان سلاح الجو السوري بات يعمل ضد "داعش" داخل الاراضي العراقية ، وقد اعترف المالكي ضمناً بذلك ورحب به لهذا التطور دلالته الإستراتيجية ايضاً اذ يؤشر الى تكريس سوريا والعراق ساحةَ حربٍ واحدة في مواجهة "داعش" الامر الذي قد تنشأ عنه تداعيات سياسية توحيدية بين هاتين الدولتين في المستقبل ، كما قد تنشأ عنه ردود فعل امنية سلبية من طرف تركيا و"اسرائيل"
وبعد ذلك كله سيضطر الولايات المتحدة ، عاجلاً او آجلاً ، الى اتخاذ موقف صارم من "داعش" ، فلا تبقى مناهضة له ، ظاهراً وربما باطناً ، ومعادية لإعدائه ظاهراً وباطناً