جريدة "القدس العربي" و"البناء
تاريخ 16/м/2014
مَن فعلها في الموصل ولماذا ؟
د. عصام نعمان
تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) اكد وتباهى بأنه، بين ليلة وضحاها، اسقط الموصل واستولى عليها صنع لنفسه مفاجأة ثم اهـداها لأعدائه الهدية تكشّفت عن فضيحة الجيش الذي صرفت عليه الحكومات المتعاقبة اكثر من 25 مليار دولار لتدريبه وتسليحه لم يصمد 25 ساعة خلال الهجمة على المدينة
الهجمة تحوّلت اجتياحاً خلال ساعات معدودات سيطر "داعش" على سائر انحاء محافظ نينوى تقدّم الى تكريت ، حاضرة محافظة صلاح الدين هددت طلائعه كركوك ، حاضرة محافظة التأميم ، وتوعّد ناطق بإسمه بغداد وكربلاء اخيراً وليس آخراً ، قام بجرف السواتر الحدودية بين محافظتي الموصل والانبار العراقيتين ومحافظات الحسكة والرقة ودير الزور السورية أليس مرتجى "داعش" تحقيق "الدولة الإسلامية في العراق والشام" ؟
ظاهر الحال اشار الى ان "داعش" كان وراء كل ما حدث لكن سرعان ما تكشّفت الحقائق : ثمة اطار سياسي وقتالي اوسع يضم ، الى "داعش" ، خليطاً من الضباط والرتباء القدامى في جيش صدام حسين ، ومجموعات من البعثيين والقوميين وجيش النقشبندية الذي تردد أن قائده هو نائب صدام عزت ابراهيم الدوري ، بالإضافة الى تجمع العلماء المسلمين بقيادة الشيخ حارث الضاري
هذا الخليط المتنوع كان أنشأ مجلساً عسكرياً لإدارة الصراع يبدو ان قيادييه ، تمكّنوا من استمالة وإقناع كبار ضباط الجيش العراقي في الموصل ، بالعصبية المذهبية او بالمال ، بالتخلي عن مواقعهم واسلحتهم الثقيلة ومغادرة المدينة الامر نفسه تكرر في كركوك اذ انسحبت وحدات الجيش في ما يشبه التواطؤ مع الجماعات "الجهادية" المهاجمة
من الثابت ان انهيار الجيش العراقي مردّه ، في الاساس ، الى الفساد المستشري في صفوف اهل السلطة ، ومنهم انتقلت العدوى الى الجيش وجميع مرافق الدولة الى ذلك ، رفضت الحكومات المتعاقبة اعادة آلاف الضباط المتهمين بالولاء لصدام ذلك اشاع مناخاً من الغضب والسخط في اوساط اهل السنّة والجماعة في المحافظات الشمالية وساعد "الجهاديين" عموماً على إجتياح المدن والبلدات من دون ان يلقوا مقاومة محسوسة بإختصار ، اصبح الجيش كياناً فضفاضاً متهافتاً بلا رابطة وطنية ولا عقيدة قتالية ولا قضية
الى اين من هنا ، عسكرياً وسياسياً ؟
عسكرياً ، تتحدث مصادر معلومات قريبة من اطراف المجلس العسكري عن خطة متكاملة ترمي الى السيطرة على مجمل محافظة نينوى ، ومحافظة صلاح الدين ، ومحافظة التأميم ، وعلى ما تبقّى من محافظة الانبار المترامية الاطراف وصولاً الى محافظة ديالى ، ومن ثم تطويق بغداد العاصمة الى ذلك ، للمجموعات المنتمية الى المجلس العسكري وجود وانتشار ، علني او سري ، في جميع المحافظات المذكورة بإستثناء بغداد التي باتت غالبيةُ سكانها من الشيعة وليس من الغلو القول إن هذه المحافظات تشكّل جغرافياً اكثر من نصف مساحة العراق
سياسياً ، ثمة واقعات سابقة لهجمات "داعش" الاخيرة وتطورات لاحقة لها من الثابت ان المجتمعات السنيّة في شمال العراق وغربه معارِضةٌ بصورة عامة للحكومة المركزية في بغداد منذ لحظة سيطرة القوات الاميركية الغازية على العاصمة العام 2003 غير ان جنوح بعض السياسيين وزعماء العشائر في المحافظات ذات الغالبية السنيّة الى المشاركة في الحكومات التي اقامتها ادارة الإحتلال، ادى الى نشؤ ثلاث جماعات سياسية داخل المجتمعات السنيّة : الاولى متعاونة مع الإحتلال ومشاركة في السلطة الثانية معارضة للإحتلال ومتعاونة مع سائر القوى الوطنية في مختلف المناطق والمجتمعات المعادية للإحتلال وللجماعات المنخرطة في سياسته وانشطته الثالثة اسلامية ومتحفظة حيال الفئتين الاولى والثانية
يبدو ان مناخ الغضب والسخط السائد في المحافظات الشمالية وعدم تجاوب حكومة المالكي مع مطالبها والجنوح الى تجاهلها وتهميشها ادى الى حصول تقارب بين الفئتين الاولى والثالثة والى تنامي التنسيق بينهما
من تلاقي قيادتي هاتين الفئتين نشأت قيادة عليا بإسم "المجلس العسكري" ، يتفرّع عنه مجالس معاوِنَة في اقضية المحافظات الشمالية والغربية
ما مخطط الإطار التنظيمي المستجد للمعارضة العراقية المسلحة ، وإلامَ يرمي في هجماته الاخيرة ، وهل يندرج في مخطط اكبر له صلة او صلات بدول كبرى ومتوسطة على الصعيدين العالمي والإقليمي ؟
يميل فريق من المحللين السياسيين المتتبعين لمجريات المشهد العراقي الى الترجيح بأن ما جرى ويجري في المحافظات ذات الغالبية السنيّة هو "خبطة" عسكرية نفذتها القوى السياسية السنيّة المشاركة في الحكومة المركزية نظرياً والمحرومة من السلطة والنفوذ والمنافع عملياً (اسامة النجيفي وحلفاؤه) بالتعاون مع قدامى الضباط من جيش صدام وقياديين من حزب البعث واهل النظام البعثي السابق ، هدفها ممارسة ضغط شديد على نوري المالكي وحلفائه في التحالف الشيعي العريض (ابراهيم الجعفري ومقتدى الصدر وعمار الحكيم ) وعلى التكتل الكردي المتحالف معه لحمل الجميع على تقديم التنازلات الآتية :
منع المالكي نهائياً من الحصول على ولاية ثالثة في رئاسة الحكومة
تأمين مرشح بديل لرئاسة الحكومة من التحالف الشيعي يكون مقبولاً من التكتلات السنيّة وملتزماً التعاون معها
التوافق على صيغة جديدة متوازنة للحكم من شأنها تأمين مشاركة وازنة لاهل السّنة فيها وبالتالي ازالة "الغبن" اللاحق بهم
التفاهم مع التكتلات الكردية في اقليم الحكم الذاتي على صيغة لتقاسم عائدات النفظ المستخرج من آبار الاقليم والمصدّر الى الخارج عبر تركيا
فريق آخر من المحللين السياسيين والإستراتيجيين لا يستبعد ان تكون الاهداف المار ذكرها في صدارة مخططي "الخبطة" الاخيرة ومنفذيها ، لكنه يميل الى الإعتقاد بأنها ، وإن تكن ممكنة وواردة في المدى القصير ، لا تتعارض مع اغراض ومرامي اخرى تتوخاها سائر اطراف "المجلس العسكري" والقوى التي تقف وراءها فقد استوقف خبراء هذا الفريق قيام "داعش" ، غداة السيطرة على الموصل وتكريت ، بنشر خريطة دولة الخلافة التي يطمح الى بنائها ، وهي تضم العراق وسوريا ولبنان وفلسطين والاردن ،
اضافةً الى الكويت لذلك فإن السيطرة على محافظات شمال العراق وغربه ، وربما على غيرها ايضاً ، تشكّل مجرد مرحلة من مراحل عدة يتطلبها مشروع دولة الخلافة
لا يستبعد خبراء آخرون ان يكون للولايات المتحدة يد في ما حدث وذلك للضغط على حليف قوي لايران (المالكي ورموز التحالف الشيعي) في سياق المفاوضات الصعبة الجارية معها للتوصل الى تسوية بشأن برنامجها النووي
الى ذلك ، ثمة خبراء في الفريق نفسه كما في دوائر ديبلوماسبة غربية لا يستبعدون ان يكون لبعض الدول العربية والإسلامية المحافظة صلة تمويل وتسليح مع "داعش" في سياق سياستها الرامية الى ضرب ما تسميه "الهلال الشيعي" في حلقته الوسطى ، العراق ، ما يؤدي الى قطع تواصل ايران مع سائر اطرافه ، ولاسيما سوريا وحزب الله في لبنان
كل هذه الترجيحات والإحتمالات واردة بدرجات متفاوتة من الواقعية غير ان مباشرتها ، ناهيك عن تحقيقها ، يبقى مرهوناً بمخططات وسياسات اطراف اخرى مقتدرة ونافذة ، ابرزها الولايات المتحدة وروسيا وايران وتركيا والسعودية و "اسرائيل"