المطلوب لاعبون من خارج الملعب...
جريدة "البناء" تاريخ 28/5/2014
المطلوب لاعبون من خارج الملعب...
د. عصام نعمان
لبنان ملعب ولاعبون. الملعب هو النظام السياسي ، واللاعبون هم متزعمون في طوائف ، ورجال اعمال واموال يمتهنون السياسة ، ومتنفذون في الجيش وقوى الأمن.
الملعب هو نفسه مذّ أنشأ المفوض السامي الفرنسي بقرار منه في اول ايلول 1920 " دولة لبنان الكبير" . اللاعبون هم أنفسهم تقريباً مذّ وضعت سلطات الإنتداب الفرنسي ، عبر مجلس النواب ، دستوراً للبلاد العام 1926 ، ونظاماً لتوارث السلطة بين امراء الطوائف والعشائر وأغنيائها وكبار موظفيها.
ما كان هذا النظام ليبقى كل هذه العقود لولا ان اركانه كرسوا قانوناً للإنتخابات قام ، وما زال ، على اساس التمثيل الاكثري الطائفي والتصويت الجمعي في دوائر متفاوتة الاحجام والمقاعد . هذا القانون السائد منذ نحو سبعين عاماً لم يطرأ عليه اي تعديل سوى زيادة عدد المقاعد النيابية او تقليصها ، وتوسيع الدوائر الإنتخابية او تضييقها.
بهذا القانون اللاديمقراطي تمكّن اهل النظام والشبكة السياسية الفاسدة التي تحكمه من اعادة انتاجه محنّطاً على مرّ الزمن. تحنيط النظام حال دون تجديده بعناصر شبابية وعصرية ما ادى الى ترهله واستشراء الازمات المرَضية المزمنة في بنيته.
آخر ازمات النظام عجز اهله عن إنتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل إنتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. لشغور سدة الرئاسة تداعيات سياسية واجتماعية مربكة ومؤذية اهمها ثلاثة :
اولاها ، مسألة الشغور في سدة الرئاسة وجواز او عدم جواز التشريع خلالها. ذلك ان فريقاً وازناً من الحقوقيين الكبار ، كما من النواب ، يعتقدون ان استبعاد رئيس الجمهورية حكماً بفعل خلّو سدة الرئاسة من دائرة المراجع التي يحق لها مراجعة المجلس الدستوري لإبطال قانون ما ، إنما هو سبب دستوري يحول دون ممارسة مجلس النواب سلطة التشريع . فالقانون ليس مجرد عمل معبّر عن ارادة الشعب اذ اضحى بعد انشاء المجلس الدستوري الناظر في دستورية القوانين ، "لا يمثل الارادة العامة إلاّ بقدر توافقه واحكام الدستور" . غير انه يحق لمجلس النواب التشريع خلال خلو سدة الرئاسة في "حال الضرورة التي تعرّض الدولة او مؤسساتها للخطر او عندما يقتضي اصدار قوانين تتوقف عليها ممارسة او حماية حقوق دستورية" (كما سبق واوضحت هيئة التشريع والإستشارات في رأيها تاريخ 26/6/2013 في ما خصّ التشريع في ظل حكومة مستقيلة).
ثانيتها ، مسألة الصلاحيات التي يحق لمجلس الوزراء ممارستها وكالةً عن رئيس الجمهورية بعد خلو سدة الرئاسة. ذلك ان فريقاً من كبار الحقوقيين ، كما من النواب ، يرى ان مجلس الوزراء عندما يمارس وكالةً ، بموجب المادة 62 من الدستور ، صلاحيات رئيس الجمهورية فإنما يمارسها بصورة انتقالية ومؤقتة وبالحدود التي تمكّنه من تسيير شؤون البلاد على ان لا تمس الصلاحيات اللصيقة بشخص الرئيس مثل اصدار مرسوم بقبول استقالة الحكومة او اعتبارها مستقيلة ، او اجراء استشارات نيابية لتسمية رئيس الحكومة المكلّف ، او تولي المفاوضة في عقد معاهدة دولية ، او طلب حل مجلس النواب ، او اقتراح تعديل الدستور... غير ان ثمة من يعتقد بين النواب ان ممارسة مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية بعد خلو سدة الرئاسة تبقى حرّة وكاملة وليس ثمة نص دستوري يقيّدها.
ثالثتها ، مسألة انقضاء ولاية مجلس النواب من دون تشريع قانون انتخابات جديد تبعاً لتبني الرأي القائل بعدم جواز التشريع في حال خلو سدة الرئاسة . ذلك ان ولاية المجلس تنتهي في مطلع شهر تشرين الثاني المقبل ما يستوجب إجراء الإنتخابات وفق القانون النافذ الذي سبق لمعظم رؤساء الكتل النيابية ان رفضوه كلياً من دون التوافق على قانون بديل.
يواكب هذه المسائل الدستورية المعقدة مشاكل سياسية واجتماعية لا تقل عنها تعقيداً. ذلك ان مجلس النواب دعي الى جلسة للبت في مشروع سلسلة الرتب والرواتب المحفوف بالخلافات والمخاطر في وقت بدا ان فريقاً من النواب يميل الى مقاطعة الجلسة ايماناً منهم بعدم جواز التشريع في ظل خلو سدة الرئاسة. إن عدم انعقاد الجلسة بسبب المقاطعة ، او انعقادها من دون اقرار السلسلة المذكورة ، او إقرارها على غير ما تشترطه "هيئة التنسيق النقابية" سيؤدي الى اضطراب اجتماعي وسياسي . فالهيئة اعلنت انها ستواجه اياً من الحالات السلبية المار ذكرها بالإمتناع عن وضع اسئلة الإمتحانات في المدارس الرسمية والخاصة وعدم تصحيح المسابقات ما يؤدي الى شل قطاع التربية والتعليم .
الى ذلك ، فإن عدم إٌقرار السلسلة قبل انتهاء الدورة النيابية آخر الشهر الجاري ، تطرح مشكلة جديدة هي جواز او عدم جواز قيام مجلس الوزراء بفتح دورة استثنائية لمجلس النواب ، كما جواز او عدم جواز إتخاذه قرارات اساسية اثناء خلو مدة الرئاسة . فمن شأن انفجار هاتين المشكلتين ان يؤدي الى تلاحم الساخطين على النظام لأسباب اجتماعية مع الساخطين عليه لأسباب سياسية وتعاونهم تالياً في الشارع بالضغط لتحقيق مطالبهم.
كل هذه الازمات والمشاكل والتطورات المحتملة تشكّل فرصةً نادرة يقتضي ان تغتنمها القوى الوطنية والديمقراطية الحية لإدخال لاعبين جدد الى ملعب النظام بغية تغيير "قواعد اللعبة" لما فيه خير المشاهدين ، اي المواطنين . كيف ؟
لعل اولى التدابير الواجب اتخاذها تحويلُ المشاهدين (المواطنين) في مدارج الملعب الى مشاركين في اللعبة . يتحقق ذلك بطريقتين : الاولى ، مسارعة القوى الوطنية والسياسية الحية الى احتضان "هيئة التنسيق النقابية" ومساندة نضالها المطلبي بدعم شعبي قوي وتطوير التعاون معها الى عمل سياسي جبهوي متعاظم على مستوى البلاد كلها . الثانية ، بالتزامن مع الطريقة الاولى ، تقوم القوى الحية ببناء هيئة تنسيق سياسية لإقامة اعرض تحالف شعبي سياسي بغية الضغط على الحكومة ، خلال الظروف الإستثنائية السائدة ، لحملها على اتخاذ قرارات اصلاحية استراتيجية استثنائية ثلاثة :
اولاً ، وضع قانون ديمقراطي للإنتخابات بإعتماد البلاد دائرة انتخابية واحدة، على اساس نظام التمثيل النسبي او نظام التمثيل الاكثري وفق قاعدة "لكل ناخب صوت واحد" ، واحالته بصيغة مشروع قانون معجل على مجلس النواب وفق احكام المادة 58 من الدستور ليصار الى اصداره بمرسوم اذا تعذّر البت به خلال مدة الاربعين يوماً المنصوص عليها في المادة المذكورة ، او إصداره بمرسوم اذا تعذّر على مجلس النواب الإنعقاد ، وذلك عملاً بنظرية الظروف الإستثنائية واحكام الضرورة. بعد ذلك ، تقوم الحكومة ، خلال المدة التي حددها قانون الإنتخابات الجديد ، بإجرائها تحت إشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الإنسان والحريات العامة ، ووسائل الاعلام اللبنانية والعربية والأجنبية ، وحتى بإشراف الامم المتحدة اذا اقتضى الامر.
ثانياً، ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيساً جديداً للجمهورية ، فيقوم لاحقاً بإجراء الإستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة.
ثالثاً ، يقوم المجلس النيابي الجديد ، وقد اضحى له طابع تأسيسي ومشروعية وطنية جامعة ، بمباشرة عملية حوار شامل من خلال لجانه المتخصصة لتحديد الاولويات الوطنية ، السياسية والامنية والإقتصادية والإجتماعية ، ويتولى تحويلها الى تشريعات بالتعاون مع الحكومة .
قد تبدو هذه المبادرات والقرارات ، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة ، ثورية وصعبة التطبيق . لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الإستثنائية التي تستوجب قرارات إستثنائية وشرعية إستثنائية .
...وإلاّ فإن الحاجة العارمة للتغيير قد تستولد مطالبة شعبية متعاظمة بتدخل الجيش .
أليس آخر العلاج الكيّ ؟