جريدة "القدس العربي"
و"البناء" ناريخ 12/5/2014
من العصيان المدني الى العصيان السياسي
د عصام نعمان
ما قامت وستقوم به "هيئة التنسيق النقابية" يرقى الى مستوى العصيان المدني لكن احداً لم يستعمل بعد هذا المصطلح في توصيف ما يجري من تحركات واضرابات وتظاهرات ربما مردّ الإحجام عن استعمال المصطلح "الثوري" رغبة قادة الهيئة في عدم تخويف المرجعيات السياسية الرسمية واصحاب القرار لكن ، هل يبقى في وسع الجانبين تجاهل واقع الحال اذا ما حلَّ "يوم الغضب" الاربعاء المقبل ولم يقرّ مجلس النواب سلسلة الرتب والرواتب بصيغة مقبولة من "هيئة التنسيق النقابية" ؟
رئيس رابطة اساتذة التعليم الثانوي وأحد ابرز قادة هيئة التنسيق حنا غريب رأى ان "القضية تجاوزت موضوع سلسلة الرتب والرواتب لتفتح ملف الحقوق وسرقة الناس بحجة تأمين الإيرادات (للخزينة العامة) ، وضرب المعلمين تحديداً ( ) الغاية من السلسلة المسخ ضربُ الاساتذة ، وقد بات الامر مكشوفاً من خلال قرار منع التوظيف ، والوقوف ضد الأجراء والمتعاقدين وحرمانهم من ابسط حقوقهم في الضمان الإجتماعي وبدل النقل وغلاء المعيشة ، وبالتالي إلغاء المباراة المفتوحة التي كانت مقررة ، والإبقاء على التعاقد التوظيفي "
التصعيد في موقف "هيئة التنسيق النقابية" استولد ، على ما يبدو ، مردوداً ايجابياً لدى بعض الكتل البرلمانية رئيس مجلس النواب نبيه بري بات اكثر انفتاحاً على الملاحظات الاساسية التي قدمتها "هيئة التنسيق" موقف بري يؤشر الى ان ثنائي "كتلة الوفاء للمقاومة" (حزب الله) و"كتلة التنمية والتحرير" (حركة امل) لن يحاربا في الشارع وفي البرلمان مشروعَ السلسلة كما تريده "هيئة التنسيق"
"كتلة التغيير والإصلاح" (ميشال عون ) ستحاول استرجاع المزايا والمكاسب التي كانت حققتها اللجنة الاولى التي درست مشروع السلسلة برئاسة امين سر الكتلة النائب ابراهيم كنعان
لكن ثمة ما يشير الى ان قوى 14 آذار المحافظة غير مستعدة لتقديم تنازلات محسوسة تساعد قوى 8 آذار على تدوير الزوايا بشأن مشروع السلسلة
يتحصّل من كل هذه الواقعات والتطورات انه من المحتمل عدم إقرار السلسلة يوم الاربعاء المقبل بصيغة مقبولة من "هيئة التنسيق النقابية"، فماذا ستكون ردة الفعل ؟
هيئة التنسيق اعلنت مسبقاً موقفها الصارم : "إتخذنا توصية مؤلمة لم نكن نريدها على الإطلاق بعدم إجراء الإمتحانات الرسمية من ألفها الى يائها في حال استمرار تشاطرهم بعدم الإلتزام بالإتفاقات المعقودة معنا ، او عمدوا الى تمرير المشروع المسخ "
بتنفيذ هذه التوصية يتكامل مشهد العصيان المدني الإجتماعي: اضراب وشلل في كل القطاع العام (الادارات والمؤسسات العامة الحكومية) وقطاع التربية والتعليم الرسمي والخاص ، وقطاع النقل العام وغيره من الخدمات
كيف يمكن ان ينعكس هذا العصيان المدني غير المسبوق على المشهد السياسي المنشغل بإستحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل إنتهاء ولاية الرئيس الحالي في 25 الشهر الجاري ؟ وهل يمكن تطوير العصيان المدني الإجتماعي الى عصيان مدني سياسي؟
يحاول الأقطاب الموارنة الاربعة ، امين الجميل ، ميشال عون، سليمان فرنجية ، وسمير جعجع ، بدفعٍ قوي من البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ، التوصل الى صيغة توافقية يكون من شأنها انتخاب رئيس جديد قبل 25 الشهر الجاري ، لكن لا مؤشرات الى نجاح مرتقب في هذا السبيل صحيح ان جعجع اوحى بإستعداده لسحب ترشّحه لمصلحة شخصية مقبولة من قوى 14 آذار ، لكن من الصعب جداً ، إن لم يكن من المستحيل ، ان تتقاطع اراء ومصالح اللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين المشاركين بالفصل اللبناني من لعبة الامم على مرشح مقبول في المستقبل المنظور
كل هذه التحديات والصراعات تدفع بعض القوى السياسية ، ولاسيما القوى الوطنية الحية ، الى طرح سؤال الساعة : كيف يمكن الخروج من حمأة هذا النظام السياسي الذي بات في حال موت سريري الى نظام آخر ديمقراطي مبني على اسس حكم القانون والعدالة والتنمية ؟
في لبنان ، لا فرصة ولا قبول بفكرة انقلاب عسكري جلّ ما يستطيعه الجيش ، قيادة وضباطاً وجنوداً ، هو الإمتناع عن التحوّل سوطاً في يد الشبكة الحاكمة ذلك بحد ذاته يُعتبر انجازاً وطنياً اذ يمكّن القوى الوطنية الإصلاحية من تشديد ضغوطها على اهل النظام الفاسد المنهار بغية فرض الإصلاح السياسي الأساس الذي يفتح صفحة جديدة في تاريخ البلاد وهو اعتماد قانون ديمقراطي عادل للإنتخابات
في هذا المجال ، يجب الإستفادة من تجربة "هيئة التنسيق النقابية" لتكوين مناخ شعبي رافض للنظام السياسي المحتضر وتطويره الى هيئة تنسيق وطنية للقوى السياسية الإصلاحية العابرة للطوائف بقصد اغتنام الظروف الإستثنائية السائدة لشن عصيان مدني سياسي على الحكومة بكل الوسائل المشروعة بغية حملها على اتخاذ قرارات استثنائية ، لعل اهمها :
اولاً ، وضع قانون ديمقراطي للإنتخابات بإعتماد نظام التمثيل النسبي وصيغة البلاد دائرة انتخابية واحدة ، او اعتماد نظام التمثيل الاكثري وفق صيغة "لكل ناخب صوت واحد" ، واحالته بصيغة مشروع قانون معجل على مجلس النواب وفق احكام المادة 58 من الدستور ليصار الى اصداره بمرسوم اذا تعذّر البت به خلال مدة الاربعين يوماً المنصوص عليها في المادة المذكورة ، او إصداره بمرسوم اذا تعذّر على مجلس النواب الإنعقاد ، وذلك عملاً بنظرية الظروف الإستثنائية واحكام الضرورة
ثانياً ، تقوم الحكومة ، خلال المدة التي حددها قانون الإنتخابات الجديد ، بإجرائها تحت إشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الإنسان والحريات العامة ، ووسائل الاعلام اللبنانية والعربية والأجنبية ، وحتى بإشراف الامم المتحدة اذا اقتضى الامر
ثالثاً، ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيساً جديداً للجمهورية ، فيقوم لاحقاً بإجراء الإستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة
رابعاً ، يقوم المجلس النيابي الجديد ، وقد اضحى له طابع تأسيسي ومشروعية وطنية جامعة ، بمباشرة عملية حوار شامل من خلال لجانه المتخصصة لتحديد الاولويات الوطنية ، السياسية والامنية والإقتصادية والإجتماعية ، ويتولى تحويلها الى تشريعات بالتعاون مع الحكومة
خامساً ، تتولى لجنة الادارة والعدل البرلمانية ، بمشاركة رئيس المجلس الدستوري ، ورئيس مجلس القضاء الاعلى ، ورئيس مجلس شورى الدولة ، ورئيس ديوان المحاسبة ، ونقيبي المحامين في بيروت والشمال ، مهمةَ إجراء الدراسات واقتراح الصيغ القانونية اللازمة لإعادة النظر بإجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وصلاحياته ، وتنفيذ احكام المادة 22 من الدستور (إنشاء مجلس نواب وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 95 من الدستور المتعلقة بإلغاء الطائفية على مراحل
قد تبدو هذه المبادرات والإجراءات ، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة ، ثورية وصعبة التطبيق لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الإستثنائية التي تستوجب قرارات إستثنائية وشرعية إستثنائية