جريدة" القدس العربي"
تاريخ 5/5/2014
للتوافق الوطني اولوية على الإنتخابات
د عصام نعمان
ثمة مقولة رائجة مفادها ان الإنتخابات هي مصدر الشرعية ومعيارها اكتسبت هذه المقولة بعض الصدقية بعد انهيار الإتحاد السوفياتي وإجراء انتخابات تشريعية في دول اوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلكه غير ان التجارب الإنتخابية في تلك الدول كما في الدول المتخلّفة ومتوسطة النمو كشفت ان الإنتخابات ليست وصفة سحرية قابلة للتحقيق والتثمير في كل زمان ومكان ذلك ان لكل بلد خصوصية وظروفاً موضوعية مغايرة الامر الذي يستوجب تكييفاً لمفاهيم الديمقراطية وآلياتها بما يؤدي الى تسهيل تطبيقها وتعظيم منافعها
في بلاد العرب ، تبيّن ان الإنتخابات لم تحقق النتائج المرتجاة مردُّ الإخفاق الى سؤ مقاصد الحكام وسؤ تدبيرهم في آن بعض الحكـام كان ، وما زال ، معادياً للديمقراطية ما جعله متحايلاً في مسألة اعتمادها ومسيئاً توظيف آلياتها واجراءاتها خدمةً لأغراضه الخاصة الى ذلك ، يحدث في كثير من الاحيان ان تكون حال البلد المعني على درجة من الإضطراب والتعقيد والعنف ما يجعل بعض آليات الديمقراطية ، ولا سيما الإنتخابات ، صعبة التشغيل ومحدودة الفعالية
ما حصيلة إعتماد آلية الإنتخابات في بعض بلاد العرب، وما يمكن ان تنتهي اليه في بعضها الآخر ؟
اول انتخابات في مصر بعد انتفاضة 25 يناير 2011 جرت في العام التالي وادت ، في ظروف سياسية واجتماعية مضطربة ، الى فوز الاخوان المسلمين والسلفيين بغالبية ساحقة في مجلس النواب والى فوز مرشحهم محمد مرسي بالرئاسة الإضطراب الإجتماعي والضائقة المعيشية وسؤ تدبير الاخوان وتسلطهم السياسي افضى الى تبخّر ثقة الشعب بحكمهم ونفور عام منهم وبالتالي الى نزول اكثر من عشرين مليون مصري الى الشوارع والساحات العامة منددين بتسلطهم ما حمل القوات المسلحة اخيراً على إقصائهم ورئيسهم عن السلطة في 3/7/2013
في تونس ، استوعبت حركة النهضة الإسلامية دروس التجربة الاخوانية المرّة في مصر ، فإنفتحت على سائر القوى السياسية في المجتمع التونسي التعددي وارتضت اقامة حكومة ائتلافية لإدارة المرحلة الإنتقالية غير ان انفتاحها على غير الإسلاميين ادى الى اثارة السلفيين عموماً ما حملهم على تفجير اضطرابات مسلحة قد تتطور الى حرب اهلية ذلك كله يحمل المراقبين على النظر بقلق الى ما يمكن ان تنتهي اليه الإنتخابات القادمة
في لبنان ، ادت الإضطرابات السياسية والامنية المتواصلة الى إسقاط حكومة نجيب ميقاتي والى اخفاق القوى السياسية المتصارعة طيلة اشهر عشرة في إقامة حكومة بديلة وفي هذه الأثناء ، وإزاء عجز السلطة عن إجراء انتخابات برلمانية ، قام مجلس النواب بتمديد ولايته 17 شهراً تنتهي في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر القادم واذ داهم الجميع استحقاق انتخاب رئيس بديل من العماد ميشال سليمان الذي تنتهي ولايته في 25 الشهر الجاري، فقد عجز مجلس النواب في جلستين متتاليتين عن انتخاب رئيس جديد، وليس ما يشير الى انه سينجح في مهمته قبل إنتهاء ولاية الرئيس سليمان الامر الذي يدفع البلاد الى فراغ رئاسي مقلق ومفتوح على شتى الإحتمالات
في العراق ، تمكّنت حكومة نوري المالكي من إجراء انتخابات تشريعية عززت وضع رئيسها ، لكنها لم تؤدِ الى تغيير محسوس في موازين القوى السياسية في البلاد الى ذلك ، فإن التمرد المسلح الذي تقوده "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) ما زال ناشطاً ولاسيما في محافظة الانبار ما يطرح سؤالاً عن مدى قدرة المالكي على تأليف حكومة الأغلبية السياسيـة التي يصبو اليها ، ومدى قدرتها على وضع حدٍّ للتمرد المسلح المستشري
في سوريا ، تبدو الحكومة مصممة على إجراء الإنتخابات الرئاسية في الثالث من الشهر المقبل دول الغرب عموماً ودول الخليج المتحالفة معها خصوصاً تشكك في قدرة الحكومة على إجراء الإنتخابات في كل المحافظات لكون بعضها مسرحاً لإضطرابات امنية واسعة غير ان دمشق تؤكد ان جميع مراكز المحافظات ما زالت تحت سيطرة الجيش العربي السوري بإستثناء مركز محافظة الرقة الواقع تحت سيطرة "داعش" ، وان الجيش في طريقه الى اخراج المعارضة المسلحة من احياء حلب الشمالية الشرقية ومن ريف محافظة دير الزور ما يتيح اجراء انتخابات رئاسية مقبولة
الأرجح ان تنجح حكومة دمشق في اجراء الإنتخابات وان يفوز الرئيس بشار الاسد بولاية جديدة لكن السؤال الاهم يبقى مطروحاً : هل تكفي الإنتخابات لترميم الوحدة الوطنية المتصدعة ولإنهاء الإضطرابات الامنية التي تعصف بالبلاد منذ اكثر من ثلاث سنوات؟
تزداد مشروعية السؤال مع تطورات مستجدة تشير الى ان الحرب تتجه الى مزيد من التصعيد فقد استوقفت المراقبين ثلاث ظاهرات لافتة :
الاولى ، تصعيد ملحوظ في نشاط المعارضة المسلحة في منطقة الفصل بين قوات سوريا و"اسرائيل" في الجولان اذ تمكنت قوات المعارضة من السيطرة على ثلاثين كيلومتراً من الخط الفاصل مع العدو الإسرائيلي الذي يمتد نحو ستين كيلومتراً وقد ترافق هذا التقدم للمعارضة مع ازدياد حركة نقل جرحاها عبر خطوط وقف النار الى داخل الجولان المحتل وبالتالي الى المستشفيات الإسرائيلية في صفد ونهاريا
الثانية ، تزايد اللغط الإعلامي في باريس ولندن وعمان عن مخطط يرمي الى إنشاء جيب حدودي بين سوريا و"اسرائيل" يحاكي الشريط الحدودي المحتل الذي كان اقامه العميد الفار انطوان لحد على طول الحدود بين لبنان و"اسرائيل" الى ان تمكّنت المقاومة اللبنانية من إنهائه في العام 2000 وقد ازدادت جدّية هذا الإحتمال المقلق بعد تصريحاتٍ داعية الى ذلك اطلقها كمال اللبواني ، احد اركان المعارضة السورية في الخارج
الثالثة ، محاولة اميركا وفرنسا وبريطانيا إقرار مشروع في مجلس الامن الدولي يدعو سوريا ، في اطار الفصل السابع ، الى ادخال "المساعدات الإنسانية عبر الحدود الى الاماكن التي يصعب الوصول اليها" صحيح ان روسيا قد تستخدم حق النقض لتعطيل المشروع ، لكن عودة الدول الثلاث الى التلويح بمشروع قرار آخر لإحالة الرئيس السوري على المحكمة الجنائية الدولية تدل على انها ما زالت ممعنة في تأجيج الحرب في سوريا واطالة امدها
الى مصر وتونس ولبنان والعراق وسوريا ، جرت انتخابات رئاسية في الجزائر وفرّت ولاية رابعة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة لكن ثمة شكوكاً في ان يكون إجراؤها قد اسهم في ترميم الوحدة الوطنية المتصدعة في البلاد
في ليبيا ، الإنتخابات استحقاق واجب الاداء منذ اشهر ، لكن تصدّع الوحدة الوطنية والسياسية للبلاد لم يحلْ دون إجراء الإنتخابات فحسب بل اوحى ايضاً بما هو اخطر: تقسيم البلاد الى اقاليم في اطار نظام كونفدرالي يجد في الخارج مَن يدعم فكرته والداعين اليه
نستخلص من هذه التطورات ان تجارب الإنتخابات لم تنجح في بلادنا العربية لأسبابٍ عدة ابرزها ان مجتمعاتنا التعددية تعاني من غياب التوافق الوطني بين مكوّناتها صحيح ان الإنتخابات تظّل دائماً افضل من غيابها ، لكنها ما زالت اعجز عن ان تُضفي شرعية دستورية ومشروعية شعبية على الحكومات التي تقوم بإجرائها
ما العمل ؟
لا بد من استكمال مهمة تحرير بلادنا العربية من معوّقات استقلالها الوطني بغية تحرير ارادتها السياسية ، على ان ترافقها وتلازمه جهود متواصلة لبناء حال راسخة من التوافق الوطني ذلك يتمّ بالحوار ، وبتعزيز ثقافة الإعتراف بالآخر، وبالعمل الدؤوب لبناء مؤسسات ترعى وتنمّي المشتركات الإجتماعية بين ابناء شعبنا وترسي بينهم قيماً ومعايير مشتركة في السياسة والادارة والتعليم
التوافق الوطني اعلى وافعل واجدى من الإنتخابات انه ، في الواقع ، اولوية اولى وشرط لازم ، مسبق ودائم ، لإجرائها والافادة من مزاياها