جريدة "الخليج" الاماراتية
وجريدة " البناء" اللبنانية تاريخ 26/4/2014
" رئيس لا يخجل حاضره بماضيه"
د عصام نعمان
في معرض تعداد المواصفات المطلوب توافرها في رئيس الجمهورية، يُنسب الى البطريرك الماروني الاسبق مار نصرالله بطرس صفير قوله : "مطلوب رجل لا يخجل حاضره بماضيه"
لست ادري ما اذا كان صحيحاً ما يُنسب اليوم الى صفير من انه يؤيد مرشحاً لرئاسة الجمهورية يُجمع اكثر من نصف اللبنانيين على ان حاضره يخجل فعلاً بماضيه
ما السبيل الى اختيار مواطن للرئاسة لديه من المواصفات الحميدة ما يجعله بمنأى عن الإتهام بأن حاضره يخجل بماضيه ؟
ارى انه صعب جداً ، إن لم يكن مستحيلاً ، تحقيق هذا المطلب المحق في ظل الآلية الحالية التي يجري بموجبها انتخاب رئيس الجمهورية فالمادة 49 من الدستور تنص على ان " يُنتخب رئيس الجمهورية بالإقتراع السري بغالبية الثلثين من مجلس النواب في الدورة الاولى ، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الإقتراع التي تلي وتدوم رئاسته ست سنوات ولا تجوز اعادة انتخابه إلاّ بعد ست سنوات لإنتهاء ولايته ولا يجوز إنتخاب احد لرئاسة الجمهورية ما لم يكن حائزاً على الشروط التي تؤهله للنيابة وغير المانعة لأهلية الترشيح كما انه لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الاولى ، وما يعادلها في جميع الإدارات العامة والمؤسسات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام ، مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعلياً عن وظيفتهم او تاريخ إحالتهم على التقاعد"
ليس ادل على غموض هذه المادة وعدم دقة إجراءاتها من انها تعرّضت منذ إقرار الدستور في 23/5/1926 الى خمسة تعديلات ، ومع ذلك جرت مخالفتها مرات عدة كانت اخيرتها يوم انتخاب الرئيس الحالي العماد ميشال سليمان في 25/5/2008
الواقع ان الدستور برمته يشوبه الكثير من الغموض وعدم الدقة بدليل انه تعرّض للتعديل عشر مرات ، وان تعديـلاته تناولت 78 مادة مـن مجموع مواده الـ 102، وان بعض المواد تكرر تعديله خمس مرات!
بالعودة الى المادة 49 نجد انها لا تتضمن اي اشارة الى المواصفات التي يقتضي توافرها في المرشح لرئاسة الجمهورية حتى لو كانت هذه المادة تتضمن مواصفات وشروطاً محددة ، فإن النواب لا يجدون مانعاً جدّياً ، قانونياً او اخلاقياً، يحول دون مخالفتها فقد جرى انتخاب ثلاثة رؤساء من موظفي الفئة الاولى خلال "مدة قيامهم بوظيفتهم"، وذلك في مخالفة صريحة لنص المادة المذكورة
مردُّ استسهال مخالفة الدستور ثلاثة اسباب: غموض احكامه ، وغياب نظام حكم القانون ، وتجذّر العصبيات الطائفية والمذهبية وما يرافقها من فساد وزبائنية وتقبّل للمال السياسي ودوره في الحياة العامة
غير ان ثمة عيباً في آلية انتخاب رئيس الجمهورية يتيح للمخالفين والفاسدين فرصاً لتفادي المحاسبة القانونية والسياسية وبالتالي تسهيل وصول مرشح للرئاسة يخجل حاضره بماضيه هذا العيب هو ضيق القاعدة الناخبة المؤلفة من مجموع اعضاء مجلس النواب ذلك ان عدد نواب المجلس حالياً هو 128 الامر الذي يتيح لمرشح او اكثر ان يستميل الى صفه عدداً من النواب ضعاف النفوس بوسائل المال، والعصبية الطائفية والمذهبية ، والضغط السياسي والامني عبر سلطة او جهة متنفذة
هذه الوسائل غير القانونية جرى استخدامها مراراً وتكراراً وكانت لها مفاعيل مؤثرة في حسم نتيجة الإنتخاب لمصلحة مرشحين دون غيرهم ، خلال مختلف دورات الإنتخاب منذ العام 1943 ولغاية الوقت الحاضر
يمكن تفادي مفاعيل هذا العيب القانوني والسياسي بتعديل آلية انتخاب رئيس الجمهورية لعل التعديل الافعل والاكثر ديمقراطية هو في إنتخاب الرئيس من الشعب مباشرةً ، اي من ناخبين لا يقل تعدادهم عن ثلثي مجموع اللبنانيين البالغ اربعة ملايين
عندما تكون القاعدة الناخبة بهذا الحجم والإتساع ينحسر ، إن لم يكن ينعدم او يكاد ، تأثير المال والعصبية الطائفية والمذهبية والضغط السياسي والامني ذلك انه يستحيل "شراء" اصوات مئات الآف الناخبين ، كما لا يمكن ان يكون لعامليّ العصبية المذهبية والضغط السياسي والامني تأثير حاسم في تحديد النتيجة النهائية
لماذا لا يُنتخب ، اذاً ، رئيس الجمهورية من الشعب مباشرةً ؟
لأن ثمة عائقاً رئيساً هو معارضة قادة الطوائف المسيحية بدعوى ان تعداد المسلمين في البلاد لا يقل عن 60 في المئة من مجموع الشعب ، فيما المسيحيون لا يزيد تعدادهم عن 40 في المئة ، وان هذا التفاوت من شأنه ان يأتي برئيسٍ موالٍ للمسلمين في مواصفاته ومبادئه وسياسته ، في حين ان انتخاب الرئيس من قبل النواب يضمن تأمين التوازن المطلوب بسبب التساوي في عدد النواب بين المسلمين والمسيحيين في البرلمان
معارضةُ قادة الطوائف المسيحية لإنتخاب الرئيس من الشعب مباشرةً حال ، تالياً ، دون تعديل الدستور في هذا الإتجاه ، كما حال دونه ايضاً تمسّك قادة الطوائف الإسلامية برئاسة مجلس النواب للمسلمين الشيعة ، وبرئاسة مجلس الوزراء للمسلمين السنّة
هذه "المعارضات" الطائفية حالت دون تغيير تركيبة النظام او ، في الاقل ، تعديل وتلطيف بعض جوانبه الاكثر شذوذاً عن الديمقراطية وموجبات الوحدة الوطنية والعيش المشترك فهل ان انتخاب رئيس الجمهورية مباشرةً من الشعب بات امراً مستحيلاً في الظروف الراهنة ؟
نعم ، هو امر او اصلاح صعب ، بلا شك ، لكنه ليس مستحيلاً صعوبته تنبع من حقيقة موضوعية هي الحاجة الى تغيير جذري في النظام السياسي يستوجب إجراء تعديلات اساسية في الدستور ، وهو امر بالغ الصعوبة غير انه من الممكن التوافق على مسألة إنتخاب الرئيس من الشعب في حال التوافق على اعتماد قانون انتخابات ديمقراطي عادل على اساس التمثيل النسبي في دائرة انتخابيـة واحدة تشمل البلاد كلها في ظل قانون كهذا ، حتى مع الإحتفاظ بالتوزيع الطائفي للمقاعد النيابية والمناصفة في التمثيل النيابي بين المسلمين والمسيحيين ، يمكن ضمان حصول المسيحيين على نصف عدد نواب البرلمان وفق ارادة الغالبية من ناخبيهم ، كما يمكن تالياً تعديل الدستور جزئياً لإعتماد قاعدة انتخاب الرئيس من الشعب مباشرةً شريطة ان يكون المرشح نائباً
اجل ، يؤدي تشريع قانون للإنتخابات على اساس التمثيل النسبي ، وإعتماد البلاد دائرةً إنتخابية واحدة ، وإشتراط النيابة اساساً للترشّح للرئاسة ، الى إنتخاب رئيس وطني ووفاقي متحرر من عيوب المال السياسي والعصبية الطائفية والضغوط السياسية والامنية كما من شأن هذا القانون والتعديل الدستوري الجزئي المرافق له ان يطمئنا المسيحيين ، بل كل الاقليات ، الى ان إرادتها السياسية لا تطغى عليها ارادة المسلمين مجتمعين او ارادة طائفة واحدة من بين الطوائف المتعددة التي يحفل بها المجتمع اللبناني