نشرت بجريدة "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 23/12/2019
هل بدأ "تعريق" لبنان ؟
د. عصام نعمان
في 17 تشرين الاول/اكتوبر الماضي ، انطلق في لبنان حراك شعبي عابر للمناطق والطوائف والمشارب. في 19 كانون الاول/ديسمبر تفجّرت داخل الحراك اضطرابات امنية في مناطق ذات لون سياسي غالب. الحراك كان طابعه الغالب وطنياً وسلمياً . الإضطرابات كان طابعها الغالب مذهبياً وعنفيّاً. جمهور الحراك طالب بإسقاط النظام السياسي الطائفي ، ومكافحة الفساد واستعادة الاموال العامة المنهوبة ، وإجراء انتخابات مبكرة على اساس قانون جديد للإنتخابات . جمهور الإضطرابات جاهر برفض تكليف حسان دياب تأليف حكومة جديدة وبإعادة تكليف رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري. قوى الامن واكبت تظاهرات الحراك وحمت جمهوره المشارك، لكنها تصدّت بشدة بالقنابل المسيّلة للدموع لجمهور الإضطرابات غير المتراجع عن استخدام العنف.
لعل الفارق الابرز بين الحراك والإضطرابات ان جمهور الحراك لم يكن حزبياً بل عابر للمشارب السياسية والايديولوجية والاصطفافات الحزبية بينما اتسم جمهور الإضطرابات بصبغة سياسية ومذهبية نافرة. بإختصار ، الحراك تكوينه وطني واهدافه اصلاحية ؛ الإضطرابات تكوينها مذهبي واغراضها سياسية "حريرية" الهوى والهوية.
هل كان سعد الحريري فعلاً وراء تحريك جمهور الإضطرابات الذي حاصر منزل رئيس الحكومة المكلّف حسان دياب ، وقطع الطرقات ، وهاجم قوى الامن ، واطلق شعارات مذهبية نافرة ؟ وهل من صلة سببية بين الإضطرابات وزيارة وكيل وزارة الخارجية الاميركية دايفيد هيل لبيروت في هذه الآونة ؟
ثمة مفارقات لافتة رافقت اندلاع الاضطرابات وتخللتها وأعقبتها :
-
الحريري كان أبدى رغبته في عدم العودة الى الحكم ورشّح ثلاثة من اصدقائه لتأليف الحكومة ، ثم ما لبث ان ابدى رغبة واضحة في العودة الى رئاسة الحكومة على "اشلاء" مرشحيه الثلاثة المخذولين.
-
الحريري كان جهر بإصراره على تأليف حكومة من التكنوقراط الاختصاصيين غير السياسيين بغية إقصاء حزب الله عنها ، وإستبعاد حليفه السابق رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل ، ثم ما لبث ان تخلّى عن موقفه الإقصائي هذا بالموافقة على تأليف حكومة تكنوسياسية ، اي مختلطة ، من سياسيين وتكنوقراط ، مفسحاً في المجال لتمثيل الحزبين المذكورين.
-
كان حزب القوات اللبنانية (سمير جعجع) الموالي لسياسة السعودية والولايات المتحدة مؤيداً دائماً للحريري ، لكنه فاجأ الحريري فجرَ اليوم المحدد للإستشارات النيابية المخصصة لتسمية رئيس الحكومة المكلّف ، بإلاعلان عن امتناعه تسمية الحريري ما اوحى بأن السعودية (واميركا) تخلّيا عنه .
-
أعلن الحريري عزوفه عن العودة الى رئاسة الحكومة بعدما فَقَد "التغطية المسيحية" ، واوحى بأنه يؤيد ترئيس حسان دياب بدلاً منه ، لكنه امتنع وأعضاء كتلته النيابية عن تسميته خلال الإستشارات النيابية التي اجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
-
اعلن شركاء الحريري في حكومته السابقة – التكتل العوني وحركة امل وحزب الله – تسمية حسان دياب لتأليف الحكومة الجديدة فيما اعلن حليفاه القديمان ، تيمور جنبلاط (الحزب التقدمي الاشتراكي) وسامي الجميّل (حزب الكتائب) تسمية نواف سلام .
-
تبيّن بنتيجة الإستشارات النيابية حصول حسان دياب على تأييد 69 نائباً من مجموع اعضاء مجلس النواب ال 128 ، بينهم ستة فقط من السنّة ، الامر الذي اثار سخط جماعة الحريري ودفعهم الى التظاهر وتفجير اضطرابات ومواجهات عنيفة مع قوى الامن في بيروت وسائر المناطق.
-
بعد اتضاح ان انصاره هم محركو الإضطرابات ووقودها في آن، قام الحريري بإطلاق دعوة بصيغة تغريدة فريدة :"مَن يحبني يترك الشارع فوراً".
-
انصار الحريري لم يتركوا الشارع بل صعّدوا الإضطرابات ما حمل معارضيه على القول إن المسألة تحتمل تفسيرين : إما ان الحريري يرفض الإضطرابات ظاهراً فيما هو يقف وراءها باطناً ، وإما ان انصاره ما عادوا يحبونه بدليل انهم لم يتركوا الشارع !
-
موقف الحراك الشعبي من تكليف حسان دياب تأليف الحكومة الجديدة تكشّف هو الآخر عن مفارقات لافتة . ذلك ان فريقاً منه ارتأى منحه فرصة للعمل وبالتالي لإختباره بدعوى ان الحراك كان يطالب دائماً بضرورة الإسراع بإجراء استشارات نيابية ولا يجوز تالياً معارضة ما انتهت اليه بتكليف دياب قبل تجريبه واختباره. فريق آخر دعا الى رفضه وحاول السيطرة على الشارع مطالباً بإعادة تكليف الحريري تأليف الحكومة . وثمة فريق ثالث رفضه كونه وزيراً سابقاً وبالتالي جزءاً لا يتجزأ من الطاقم الحاكم الفاسد الذي يتوجب إقصاؤه برمته دونما هوادة.
ماذا عن زيارة دايفيد هيل والغرض منها في هذه الآونة ؟
هيل حرص على القول إن لا دور للولايات المتحدة في اختيار رئيس الحكومة ، داعياً المسؤولين والمواطنين الى تسريع إجراء الاصلاحات الضرورية لتفادي الإنهيار الإقتصادي . غير ان ثمة تفسيراً شائعاً وربما راسخاً في مختلف اوساط الرأي العام هو ان الغرض الاساس لزيارته هو حثّ المسؤولين على القبول بوساطة اميركية بين لبنان و"اسرائيل" برعاية الامم المتحدة بغية إعتماد التسوية الاميركية (المنحازة لـِ"اسرائيل") بشأن تحديد الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة بما يمكّن الكيان الصهيوني من الإستيلاء على قسم من المنطقة الإقتصادية الخالصة اللبنانية لا تقل مساحته عن 850 كيلومتراً مربعاً .
الى ذلك ، يرى خصوم اميركا الكثر في لبنان ان لحضور وكيل الخارجية الاميركية في هذه الآونة غاية اخرى خطيرة هي ترميم العلاقات بين حلفاء اميركا في لبنان واعادة بناء التحالف فيما بينهم على نحوٍ يجعلهم اكثر قوة وجاهزية في مواجهة المقاومة وحلفائها بدءاً بتكريس إقصاء حزب الله وحلفائه عن الحكومة ومجابهة نشاطه وسياسته بفعالية ومثابرة.
المقاومة وحلفاؤها لا يستغربون البتة ان يكون دايفيد هيل قد حضر الى البلاد بغية تحقيق الأغراض سالفة الذكر ، لكنهم يتخوّفون ويتحسّبون لما يمكن ان تتطور اليه سياسة اميركا محلياً وهو تأجيج الفتن الطائفية والمذهبية وصولاً الى تعميم الاضطرابات الامنية الدموية في جميع انحاء لبنان "وتعريقه" بمعنى تعميم وضعٍ يحاكي ما يجري في العراق حالياً بغية استنزافه وشلّه.
"تعريق" لبنان هو ، على ما يبدو ، ما تبتغيه ادارة ترامب الأمر الذي يستدعي ان تكون الاولوية المركزية للقوى الوطنية والتقدمية الحيّة في هذه المرحلة هي مواجهة سياسة اميركا واغراضها الخبيثة بكل الوسائل السياسية والامنية المتاحة وذلك بالتزامن مع بناء جبهة للتكاتف والتضامن في مواجهة تحديات الإنهيار المالي والإقتصادي، والعمل تالياً لتحقيق اصلاحات ديمقراطية جذرية على طريق النضال الهادف الى اقامة الدولة المدنية الديمقراطية ، وقد آن الاوان.