نشرت بجريدتي "البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 30/12/2019
هل اصبح شرق البحر المتوسط
ساحة حروب العام ؟ 2020 على النفط وعائداته
د. عصام نعمان
حروب القرن العشرين كانت تبدأ في اوروبا وتنتهي فيها. منها اندلعت الحرب العالمية الاولى ، من البلقان تحديداً ، ثم عمّت سائر دول القارة العجوز وفاضت منها الى بلدان غرب آسيا. الحرب العالمية الثانية اندلعت من اوروبا ايضاً ، من بولونيا وتشيكوسلوفاكيا ثم عمّت دول اوروبا وفاضت منها لتغمر اليابان والصين في اقاصي شرق آسيا. حتى حروب كوريا وفيتنام وافغانستان يمكن اعتبارها ملاحق للحرب العالمية الثانية ، ومثلها الحرب في يوغوسلافيا بعد إنفصام وحدتها ومسارعة دول غرب اوروبا (ومن ورائها الولايات المتحدة) الى التدخل فيها لتقاسم المصالح والنفوذ.
حروب القرن الحادي والعشرين لن تبدأ ، على ما يبدو ، في اوروبا بل في حوض شرق البحر الابيض المتوسط . ثمة اربع ساحات حرب مرشحة في هذا المجال :
اولاها بين لبنان و"اسرائيل" . ذلك ان الكيان الصهيوني أقدم على اقامة منشآت للحفر ومنصّات لإستخراج النفط والغاز في المنطقة البحرية الإقتصادية الخالصة شماليّ فلسطين المحتلة على مقربة من المنطقة الإقتصادية الخالصة في جنوب لبنان ما يهدد القطاع 9 (Block9) منها المحاذي لمنصتيّ لفيثان وكاريش الإسرائيليتين. وكان الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله قد اعلن مراراً انه لن يتردد في تدمير منشآت "اسرائيل" النفطية في البحر اذا أقدمت على منع لبنان من استخراج النفط من مياهه الإقليمية او حاولت سرقته من باطن القطاع 9.
ثانيتها بين سوريا والولايات المتحدة . ذلك ان حقول النفط شمال شرق البلاد على امتداد وادي نهر الفرات والبادية المحيطة به ، ولاسيما في شمال شرق دير الزور ، كانت قد وقعت تحت سيطرة تنظيم "داعش" الإرهابي ، وبعد تحريرها منه انتقلت السيطرة عليها الى أيدي تنظيمات كردية سورية تموّلها وتسلّحها الولايات المتحدة وتمنعها من إعادتها الى الحكومة السورية. اكثر من ذلك ، قام الرئيس دونالد ترامب بنشر قوات اميركية وسط المنطقة النفطية المشار اليها واعلن اعتزام بلاده استثمار الحقول النفطية فيها لمصلحة التنظيمات الكردية التي يدعمها . فوق ذلك ، اعلنت تركيا ايضاً اعتزامها المشاركة في عملية استثمار الحقول النفطية السورية بغية استخدام عائداتها في توطين اللاجئين السورين لديها في "المنطقة الآمنة" التي اقامتها في شمال سوريا. وليس من شك في ان مبادرة الحكومة السورية ، عاجلاً او آجلاً ، لإعادة سيطرتها على مناطق شمال شرق البلاد سيؤدي الى اندلاع الحرب ليس مع الولايات المتحدة وزبانيتها من الكرد السورين فحسب بل مع تركيا ايضاً اذا حاولت منعها من بسط سيادتها على كامل ترابها الوطني .
ثالثتها بين تركيا من جهة ، ومن جهة اخرى مصر واسرائيل وقبرص اليونانية التي وقّعت فيما بينها اتفاقاً على تقاسم خيرات المياه الإقليمية الاقتصادية التي تحتوي حقولاً من الغاز الطبيعي كما على مدّ انبوب غاز تحت الماء يصل الى اليونان ويربط هذه الحقول ومنتوجها الغازي باوروبا . مكمن النزاع هو في ادعاء تركيا ان لها الحق بالسيطرة على المياه الاقليمية الإقتصادية لقبرص التركية كما في المياه الإقتصادية الممتدة بين شواطئها وشواطىء ليبيا . وعليه ، تهدد تركيا بمنع وصول الغاز من منصات ليفثان وكاريش وتمار الإسرائيلية وحقول الغاز القبرصية والمصرية الى اوروبا ما يزجّها في صراعٍ مع كل الدول التي تمتلك حقول الغاز هذه كما مع اليونان التي يصل اليها انبوب الغاز المزمع مدّه تحت الماء.
رابعتها بين مصر وتركيا. ذلك ان تركيا ، بإدعائها حقوقاً وسيطرة على المنطقة الممتدة من شواطئها الجنوبية الى شواطىء ليبيا الشمالية ، تكون في وارد تهديد حقل ظُهر المصري الغني بالنفط والغاز الواقع في منتصف المسافة البحرية بين تركيا وليبيا الامر الذي يؤدي الى اندلاع صراع بينها وبين مصر ، خصوصاً بعدما هدد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بنشر قوات في طرابلس غرب ليبيا لدعم حكومة فايز سراج المتعاونة معه في وجه حكومة بنغازي في شرق ليبيا الموالية للجنرال خليفة خبتر الذي تدعمه مصر وروسيا والامارات العربية المتحدة.
إن احتمال إنفجار حروب بين الدول الإقليمية الاربع او الخمس المشار اليها كما بين اسرائيل وحزب الله الذي بات قوة اقليمية ، لن تقتصر مفاعيلها وتداعياتها على اطرافها فحسب بل ستشمل بالضرورة دولتين كُبريين تتداخل مصالحهما وسياساتهما بحقوق ومصالح مختلف اللاعبين الإقليميين . فالولايات المتحدة التي تتمركز عسكرياً في سوريا والعراق وتؤكد جهاراً انها تسيطر على حقول النفط فيهما ، لن تتردد في المشاركة مباشرةً او مداورةً في الصراعات، وربما الحروب ، بين الأطراف الإقليمية المتنازعة . دوافعها للتدخل متعددة ابرزها اثنان : دعم "اسرائيل" اذا اقتضت اغراضها الأمنية ذلك ، وتمكين الشركات الاميركية من المشاركة في استثمار حقوق النفط لا للحصول على النفط نفسه كون اميركا مكتفية ذاتياً منه بل للحصول على حصة وازنة من عائداته الوفيرة.
روسيا تتمركز عسكرياً في سوريا وتساندها في حربها على التنظيمات الإرهابية ، ولاسيما في محافظة ادلب القريبة جغرافياً من قاعدتها الجوية في مطار حميميم قرب اللاذقية ، وقاعدتها البحرية في طرطوس . الى ذلك تساند موسكو دمشق في بسط سيادتها على كامل ترابها الوطني ولاسيما على مناطق حقول النفط شرقيّ الفرات بغية تمكينها من استثمارها والحصول تالياً على عائدات وفيرة واساسية لمباشرة عملية اعادة الإعمار.
الى ذلك كله ، فإن ايران لن تتوانى عن مدّ يد العون لكل من سوريا والعراق اذا ما وجدت ان تدخل الولايات المتحدة عسكرياً فيهما، اياً كانت دوافعها ، بات يشكّل تهديداً لأمنها القومي . فهي مهتمة بإضعاف الولايات المتحدة اقليمياً للحدّ من نفوذها وصولاً الى تمكين حليفتها سوريا والعراق من استثمار طاقتها النفطية والغازية وصولاً الى المشاركة في تمويل تنفيذ مشروع مدّ انبوب نقل الغاز من ايران ، كما من سوريا والعراق لاحقاً ، الى الساحل الشرقي للبحر المتوسط وبالتالي الى اوروبا.
بإختصار ، الصراع الاقليمي ، وحتى الدولي، على الغاز ، خصوصاً بعد تعاظم الحاجة اليه كبديل من النفط كونه صديقاً للبيئة ، مرشحٌ لتوليد صدامات واشتباكات لا يُستبعد تطورها الى صراعات مسلحة بل الى حروب طاحنة.
بدلاً من اوروبا ، مهد حروب القرن العشرين ، هل يصبح شرق البحر المتوسط مهداً لحروب القرن الحادي والعشرين ؟