المشهد السياسي اللبناني امام تحديين : الشراكة في السلطة او... الشراكة في الفوضى
نشرت بجريدتي "البناء"و"القدس العربي"
تاريخ 16/12/2019
المشهد السياسي اللبناني امام تحديين :
الشراكة في السلطة او... الشراكة في الفوضى
د. عصام نعمان
يعيش لبنان منذ 17 تشرين الاول/اكتوبر الماضي حالَ حراكٍ شعبي عابر للمناطق والطوائف والمشارب. قبل هذا التاريخ كان البلد قد اضحى على حافة انهيار مالي وإقتصادي . أدّى تعاظم ضغوطِ الحراك في الداخل وضغوط الولايات المتحدة في الخارج والداخل معاً الى استقالة حكومة سعد الحريري في 29 اكتوبر. منذ الإستقالة غير المتفق عليها بين اركان الشبكة السياسية الحاكمة ، تعذّر التوافق على تأليف حكومة بديلة. ذلك ادّى بدوره الى تزايد وتيرة الإنهيار المالي والإقتصادي.
شَخَصت الأنظار مساء يوم الجمعة الماضي الى السيّد حسن نصرالله ، امين عام حزب الله ، منتظرةً موقفاً حاسماً يُخرج البلاد من الأزمة المستفحلة. السيّد تخيّر ان يقدّم الى المسؤولين والمواطنين تحليلاً موضوعياً لما جرى ويجري ومخرجاً آمناً من حال الإستعصاء السياسي الذي يشلّ البلد . تحليله تركّز على محورين : محاذير اللجؤ الى حكومة اللون السياسي الواحد ، ومزايا التوافق على حكومة الشراكة الوطنية الجامعة.
الحكومة المنشودة يُستحسَن ، في رأيه ، ان تكون برئاسة سعد الحريري وبمشاركة جميع الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي بما فيهم الحراك الشعبي . ذلك يتطلّب عودة قيادة التيار الوطني الحر وتكتله النيابي عن قرار عدم المشاركة في الحكومة ، كما يستوجب تليين شروطٍ كان اعلنها الحريري بشأن صيغة الحكومة وتركيبتها.
ماذا يمكن ان يحدث اليوم تحديداً بما هو مخصص لإجراء استشارات نيابية لدى رئيس الجمهورية بغية تسمية رئيس الحكومة الجديدة ؟
اذا لم يكن الرئيس ميشال عون قد أرجأ الإستشارات النيابية ، كما فعل في الاسبوع الماضي نتيجةَ تفاقم الخلافات بين اركان الشبكة الحاكمة ، فإن البلاد ربما تواجه الإحتمالات الآتية :
* ان يكون الحريري قد وافق على صيغة حكومة الشراكة الوطنية الامر الذي يمكّنه من الحصول على اكثرية وازنة من النواب لتكليفه تأليف حكومة جديدة .
* ان يرفض الحراك الشعبي تكليف الحريري تأليف حكومة جديدة .
* ان يكون الحريري قد إمتنع عن اعلان موقف واضح من صيغة حكومة الشراكة ومن تليين شروطه لتأليفها ما يؤدي الى امتناع بعض شركائه في الحكومة المستقيلة ، ولا سيما التيار الوطني الحر ، عن المشاركة في الحكومة الجديدة ، وربما يؤدي ذلك تالياً الى إرجاء الإستشارات النيابية.
* اذا جرت الإستشارات النيابية وانتهت الى تكليف الحريري مهمة تأليف الحكومة الجديدة من دون ان يكون قد وافق مسبقاً وعلناً على تليين شروطه وبالتالي قبوله بإشراك حزب الله في الحكومة ، فإن الحريري سيكون امام خيارين : المضي في تأليف حكومة شراكة وطنية بالتفاهم مع بعض شركائه السابقين ، او قبول التكليف والإمتناع عن التأليف .
* اذا امتنع الحريري عن تأليف الحكومة فإن البلاد ستواجه حالة فريدة : رئيس حكومة مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال ورئيس مكلّف تأليف حكومة جديدة لكنه ممتنع عن تأليفها.
* ثمة من يعتقد ان الحريري كان ، وما زال ، يفضّل هذا الوضع الذي يحرره من ضغوط ادارة ترامب التي تريده ، من جهة ان يبقى في السلطة رئيساً لحكومة جديدة شريطة ألاّ يكون حزب الله ممثلاً فيها ، لكنها لا تعارض من جهة اخرى بقاءه في السلطة رئيساً لحكومةٍ مستقيلة تقوم بتصريف الأعمال.
* تعوّد اللبنانيون ، ولاسيما بعد إغتيال رئيس الوزراء الاسبق رفيق الحريري ، على ان يستغرق تأليف الحكومة أشهراً الامر الذي يتيح لنجله سعد اليوم ان يستهلك ما شاء من الوقت لهذه الغاية إنما مع ميزة لافتة هي انه سيبقى رئيساً لحكومة مستقيلة لا تمارس صلاحياتها بموجب الدستور إلاّ بالمعنى الضيق لتصريف الاعمال لحين تأليف حكومة جديدة .
* لعل سعد الحريري سيلجأ ، في هذه الحالة ، الى التوسّع في ممارسة صلاحية تصريف الاعمال متذرعاً بأن البلاد تمرّ في ظروف إستثنائية تستدعي إتخاذ تدابير استثنائية .
* قد يرتضي شركاء الحريري السابقون واللاحقون على مضض هذا الوضع الإنتقالي والإستثنائي ، لكنهم سيسعون بالتأكيد الى إنهائه بما يؤمّن مصالحهم السياسية.
* يتيح هذا الوضع الإنتقالي والإستثنائي لأركان الشبكة الحاكمة فترةً مديدة لإلتقاط الأنفاس ، لكنه لن يتيح للبلاد خروجاً من حال الأزمة المتفاقمة، بل ربما يزيد من وتيرة الإنهيار المالي والإقتصادي ويسرّع السقوط في كارثة رهيبة.
هكذا يتضح ان البلاد ستكون نتيجةَ هذا السيناريو الخطير امام احتمالين : تقبّل اركان الشبكة الحاكمة خيار الشراكة في السلطة او الإنزلاق الى "خيار" الشراكة في الفوضى.
الى ذلك كله ، ثمة امــر آخر شديد الخطورة هو ان ادارة ترامب ــ بعدما اخفقت في إخضاع ايران وحركات المقاومة المتحالفة معها في لبنان وفلسطين وسوريا والعراق واليمن ــ ترى في الفوضى الخلاّقة او المتطاولة بديلاً من محاولات إخضاعها لإرادتها كون الفوضى توّفر إستنزافاً طويلاً ومكلفاً للدول والساحات التي تحتضن حركات المقاومة الامر الذي يضمن للولايات المتحدة حمايةً لمصالحها من جهة ، ومن جهة اخرى يريح "اسرائيل" كما حلفاء واشنطن المحليين.
امام هذه التحديات الخطيرة ، ماذا تراها تفعل القوى الوطنية الحيّة وحركات المقاومة ؟
لعله محكوم عليها بالصمود في كفاحها المرير ضد الشبكات السياسية المتحكمة وتصعيد نضالها الطويل ضد انظمة الفساد والقمع والتبعية للقوى الخارجية . اما في ما يخصّ لبنان فإنه محكوم على قواه الوطنية الحيّة بالمثابرة في اعتماد النهج الديمقراطي توخياً للتغيير الجذري بعيداً عن خيار الإنقلاب العسكري او العنف المفضي غالباً الى حرب أهلية . هذا يتطلّب نضالاً موصولاً وتكثيفاً جادّاً للضغوط الشعبية بغية اعتماد قانون ديمقرطي للإنتخابات يكفل صحة التمثيل الشعبي وعدالته ، على ان يجري إقراره في استفتاء شعبي يكون قد شرّعه مجلس النواب ، وفي حال امتناعه عن ذلك يُصار الى اعتماده في مؤتمر وطني تأسيسي ، عاجلاً او آجلاً .