جريدة"القدس"
تاريخ 14/4/2014
لبنان انتفاضة اجتماعية واخرى مضادة عابرتان للطوائف
د عصام نعمان
"الربيع العربي" وصل اخيراً الى لبنان لكنه ربيع اجتماعي ، بالدرجة الاولى، وعابر للطوائف لم يسبق ان كان للبنانيين في تاريخهم المعاصر قضية او قضايا اجتماعية كبرى اشتركوا جميعاً في النضال من اجل تحقيق اهدافها ثمة قضايا اجتماعية صغرى لقيت في بعض الظروف تأييداً من قوى سياسية وازنة، فأمكن استجابة مطالب القائمين بها غير ان ما يحدث اليوم يشكّل إنتفاضة إجتماعية بكل المعايير
لعل أهم مفاعيل هذه الإنتفاضة خمسة :
اولها ، ان محرّكيها والقائمين بها والمستفدين منها قطاعات اجتماعية وإقتصادية واسعة عابرة للطوائف : المعلمون ، الموظفون ، المستأجرون ، اجراء مؤسسة الكهرباء ، متطوعو الدفاع المدني ، الاساتذة المتعاقدون في الجامعة اللبنانية ، والمتعاقدون في وزارة الإعلام الخ
ثانيها ، ان المتضررين منها قطاعات واسعة عابرة للطوائف فالهيئات الإقتصادية عموماً واصحاب المصارف خصوصاً يمثلون شريحة وازنة لها نفوذ كبير في اروقة السلطة والقدرة تالياً على التأثير في قراراتها
ثالثها ، ان توقيتها مناسب جداً للجهات القائمة بها فالبلاد تواجه خلال ستة اسابيع استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية كما تواجه خلال ستة اشهر استحقاق إجراء انتخابات نيابية فوق ذلك ، تواجه حكومة تمام سلام الإئتلافية ضغوطاً سياسية وامنية شتى تجد نفسها حيالها مضطرة الى استجابة مطالب الفئات الإجتماعية المتضررة من الضائقة المعيشية
رابعها ، ان القائمين بها لم يحققوا عبوراً واختراقاً آمناً داخل الطوائف فحسب بل تمكّنوا ايضا من تحقيق عبور لافت داخل بعض الاحزاب والكتل البرلمانية فقد "تمرد" بعض النواب على مواقف كتلهم البرلمانية وتصرفوا بشكل اكثر انحيازاً للمطالب الإجتماعية المرفوعة
خامسها ، ان التشريعات التي أقرّها وسيقرها مجلس النواب بشأن المطالب الإجتماعية ستؤدي الى إحداث تغييرات مؤثرة ليس في بنية الادارة فحسب بل في جسم الإقتصاد الوطني ايضا ذلك انها تمس بشكل محسوس مصالح اصحاب المصارف التي كانت دائما محمية وبمنأى من التطورات السياسية الحادة
اكثر من ذلك ، ثمة من يعتقد ان "التشريع تحت ضغط الشارع" سيترك آثاره على العمل السياسي وبُنى النظام السياسي القائم كيف؟
لا شك في ان الجمهور الساخط على فساد النظام وعجز الحكومات المتعاقبة سيستخلص عبرةً من التحركات الإجتماعية الجارية هي جدواها وفعاليتها ما سيدفعه الى ايلاء ثقة متزايدة للقوى والتنظيمات السياسية الجادة في طرح القضايا الإجتماعية ونصرتها
في المقابل ، فإن "الثمن" الذي ستتكبده الهيئات الإقتصادية واصحاب المصارف بصيغة فوائد اكبر على ارباحها سيدفعهم الى ايجاد صيغ واساليب واجراءات اكثر فعالية في التعاطي مع اهل النظام عموماً واصحاب القرار داخل التكتلات البرلمانية والاحزاب السياسية خصوصاً بغية تحصين طبقتهم الاجتماعية ومصالحهم بصورة افضل
لعل عرضاً سريعاً لما تمّ انجازه بـ "التشريع تحت الضغط" يمكن ان يلقي الضوء على ما يمكن ان يقوم به انصار الإنتفاضة الإجتماعية من جهة وجماعة الإنتفاضة المضادة من جهة اخرى:
إقرار مجلس النواب قانون تثبيت متطوعي الدفاع المدني
إقرار اللجان النيابية المشتركة زيادة على ضريبة القيمة المضافة TVA
إقرار اللجان النيابية المشتركة قانون البناء الاخضر
إقرار اللجان النيابية المشتركة غرامات على الاملاك البحرية مع مفعول رجعي لخمس سنوات
إقرار اللجان النيابية المشتركة زيادة الضريبة على فوائد الودائع من 5 الى 7 في المئة ورفع الفوائد على التوظيفات المصرفية
كما جرى التوافق في اللجان النيابية المشتركة على مبدأ اقرار سلسلة الرتب والرواتب على ان يتم ذلك بقانون في مجلس النواب
زيادة الضريبة على فوائد الودائع اشعل للتوّ فتيل إنتفاضة مضادة فقد هدد رئيس جميعة المصارف فرنسوا باسيل بـِ " ثورة على جميع السياسيين في البلد الذين تسببوا بإفلاس لبنان وبكل الحروب التي تمر بها البلاد" سَلَفُه ، جوزف طربيه الذي اصبح رئيس اتحاد المصارف العربية ، حرص على توليف ردة فعل هادئة قال "إن زيادة ضريبة الفوائد على الودائع مؤذية للميزات التفاضلية للبنان بما تُلحقه من اذى بإستمرار ورود الودائع الى مصارفه ذلك ان القطاع المصرفي العربي لا يستهدف المودعين بأي اعباء او ضرائب بينما نقوم نحن بضرب اهم مرافق الإستثمار الذي هو اجتذاب الودائع"
حجة اخرى اوردتها جمعية المصاريف في سياق معارضتها زيادة الضريبة هي انها ستؤدي حكما الى زيادة الفوائد على جميع القروض والتسليفات الممنوحة للمؤسسات الاقتصادية ، وخصوصاً الصغيرة والمتوسطة التي تشكّل ركيزة اساسية للإقتصاد اللبناني
انصار الإنتفاضة الإجتماعية ردوا على جمعية المصارف بكشف الحجم الضخم لإرباح المصارف العاملة في لبنان فقد وزعت المصارف على اصحابها منذ العام 1992 ارباحا سنوية وصل مجموعها الى 4 مليارات دولار ، كما تنامت محفظتها العقارية الى اكثر من 3 مليارات دولار ويقول المحلل الإقتصادي والمالي محمد زبيب إن الارباح التي حققتها المصارف في عقدين من الزمن تقدّر بنحو 21660 مليون دولار بل ان المصارف نفسها اعلنت سنوياً عن ارباح صافية (بعد اقتطاع الضريبة) بلغ مجمـوعها المتراكـم بين عامي 1993 و 2013 نحو 15300 مليون دولار
الى ذلك ، يسخر انصار الإنتفاضة الإجتماعية من تهديد رئيس جمعية المصارف للسياسيين في حين انهم هم مَن مكّن المصارف من جني اكثر من 6 مليارات دولار سنوياً جراء توظيف نحو 116 مليار دولار (في نهاية 2013) لدى الدولة ومصرفها المركزي
اما ذريعة الخوف من هروب المودعين من لبنان بعد زيادة الضريبة على فوائد الودائع فقد ردّ عليها المحلل الإقتصادي محمد وهبة بقوله "إن اسعار الفوائد العالمية لا تصل الى واحد في المئة في افضل الحالات ، لكنها في لبنان تصل الى 5 في المئة ما يعني ان المودعين لن يهربوا اذا زيدت الضريبة على الفوائد بنسبة 2 في المئة لأن هذه النسبة ستخفض نسبة الفائدة الفعلية في السوق بنسبة 0,14 في المئة ، وبالتالي فإنه بعد زيادة الضريبة الى 7 في المئة ستنخفض الفائدة الفعلية على المودعين من 5 في المئة الى 4,65 في المئة مقارنةً بفوائد لا تصل الى واحد في المئة في الخارج"
من الصعب التكهن بنتيجة الصراع بين انصار الإنتفاضة الإجتماعية والإنتفاضة المضادة لأن مجلس النواب لم يفرغ بعد مـن إقرار القوانين ذات الصلة ، لاسيما ما يتعلق منها بسلسلة الرتب والرواتب ذلك ان إحتمال تبنّي البرلمان رأي حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة الداعي الى ترشيقها وتقسيط مردودها لتفادي إرهاق المالية العامة وتفادي التضخم الناجم عن اغراق السوق بكتلة نقدية ضخمة ، قد يحمل "هيئة التنسيق النقابية" وغيرها من الفعاليات النقابية والسياسية على اعلان اضراب عام وإطـلاق تظاهرات واعتصامات واسعة
الاهم من ذلك كله معرفةُ ما اذا كانت الإنتفاضة الإجتماعية العابرة للطوائف والطائفية والطائفيين ستنجب قوى وتنظيمات سياسية جديدة عابرة بدورها للطوائف وقادرة بتركيبتها الوطنية والإجتماعية الاكثر تجانساً على تغيير النظام السياسي الفاسد وبناء دولة مدنية ديمقراطية على اساس حكم القانون والعدالة والتنمية