نشرت بجريدة "القدس العربي"
تاريخ 18/11/2019
من الحراك الى الحركة
دعوة للإنتظام والتفعيل
د. عصام نعمان
بعد ما يزيد عن ثلاثين يوماً من انطلاقه في 17 تشرين الاول/ اكتوبر 2019، يمكن القول إن الحراك الشعبي بات على مفترق : المراوحة في حال التعدّد المفضي الى التبدّد او الإنتظام في اطار يرعى التفاعل والتفعيل ويعزّز الإنتاج والإنجاز.
الحراك في وضعه الراهن هبّة غضب شعبي ضد الظلم والفساد والتسلط بلغت ذروتها او كادت ، لكنها لم تحقق مبتغاها. السبب ؟ لأنها كّم هائل من أفراد وتجمعات شديدة التنوّع ، ذات سيولة ومرونة ، تسع وتتسع لكل الأذواق والأشواق والمطالب والمطامح . إنها ضد منظومة سياسية معروفة ، لكنها ليست مع اي نظام موصوف متميّز عنها . إنها حالة وليست حركة.
ما تقدّم بيانه ليس حكماً على الحراك بل توصيف له. صحيح انه ظاهرة فريدة غير مسبوقة في تاريخ لبنان السياسي من حيث انها عابرة للمناطق والطوائف والمشارب ، لكن بقاءها في حال لزوجة وسيولة يحدّ من قدرتها على الفعل والإنجاز. المطلوب تحويل الحراك من حالة الى حركة. انها دعوة للإنتظام والتنظيم والتفعيل.
مشروعيةُ هذه الدعوة ومسوّغاتها كثيرة. احزابنا السياسية شائخة ومترهلة . معظمها وليد النصف الاول من القرن المنصرم. بعضها سابق للحرب العالمية الثانية وبعضها الآخر سابق لنكبة العرب الكبرى في فلسطين. ما من حزب سياسي ذي عقيدة وبرنامج استطاع بقوته الذاتية الوصول الى عضوية مجلس النواب . حتى مَن استطاع منهم الوصول بنائب او اثنين كان ذلك مردّه الى تلازمٍ وتعاونٍ مع زعامة طائفية متجذّرة.
الى ذلك ، ثمة سبب آخر لضّآلة فعالية الاحزاب العلمانية . فقد اعتنق كلٌ منها عقيدةً او ايديولوجيا بدت للمواطنين الوطنيين غير الطائفيين كأنها دين آخر منافس للاديان والطوائف الاخرى التي تضج بها ومنها البلاد، وانهم مدعوون الى اعتناقه. هؤلاء المواطنون ، في معظمهم ، ما كانوا راغبين بعدما انفصلوا عن ثقافة طوائفهم ومؤسساتها ان يعتنقوا ديناً جديداً ليصبحوا ، بحكم الواقع الطائفي ، اتباع "طائفة" اخرى تنضاف الى عديدها المتورّم.
ليس ادلّ على ظاهرة التبرّم من الطوائف والطائفية من نزوع اللبنانيين افراداً وتجمعات الى إيثار صيغة الكتلة او التكتل بديلاً من الحزب ذي الايديولوجيا الصارمة. لعل هذا ما يفسر قيام الكتلة الدستورية (بشارة الخوري ورفاقه) في وجه الكتلة الوطنية (اميل اده ومحازبيه) ، قيام الجبهة الإشتراكية الوطنية (كمال جنبلاط ورفاقه) ضد الكتلة الدستورية او ما تبقّى منها ، وتكتل النهج الشهابي (فؤاد شهاب ومريدوه) ضد الحلف الثلاثي (كميل شمعون وريمون اده وبيار الجميل) والحركة الوطنية (ائتلاف احزاب اليسار والناصريين بقيادة كمال جنبلاط) ضد جبهة الحرية والإنسان ، وريثة الحلف الثلاثي الآنف الذكر ، بعدما آلت قيادتها الى شمعون بادىء الامر ثم الى بشير الجميل.
بعد الحرب الاهلية 1975-1990 ورغم إنهائها بوثيقة الوفاق الوطني (الطائف) لم تشهد الساحة اللبنانية قيام جبهة او كتلة سياسية عابرة للطوائف ذات شأن . من هنا تنبع ، اذاً ، اهمية الحراك الشعبي المنطلق في 17 تشرين الاول/ اكتوبر الماضي من حيث انه حالة شعبية عابرة للمناطق الطوائف والمشارب وذات تأثير وطني شامل.
غير ان الحراك ليس جبهة او كتلة . فهو لم يرتقِ بعد الى ذلك المستوى الاعلى تماسكاً والاكثر فعالية . صحيح انه حقق، بمجرد انطلاقه واستمراره ، نجاحاً ملحوظاً من حيث تعبئة جماهير واسعة ضد نظام المحاصصة الطائفية ما ادى الى تصديع هيكله والتسبّب في استقالة حكومته ، إلاّ انه لم يتطور الى تكتل سياسي متماسك ذي اهداف وبرنامج سياسي متميّز.
في ضوء هذه الواقعات والتطورات تستبين الحاجة الإستراتيجية الى تطوير الحراك من حالة شعورية الى حركة سياسية بغية الإنتقال من الإنفعال الى الفعل. ذلك يتطلّب جهوداً مركّزة من عناصر جدّية وجادة – كأركان "الحراك الشعبي للإنقاذ" ــ بغية بناء جبهة سياسية ديمقراطية تجديدية بصيغة إئتلاف للأفراد والتجمعات والتشكيلات الإجتماعية الوطنية والتقدمية المتطلعة الى بناء دولة مدنية ديمقراطية تقوم على اسس الحرية وحقوق الإنسان وحكم القانون والعدالة والتنمية.
ليس المطلوب حركة تكون بمثابة حزب سياسي وايديولوجي ذي تنظيم حديدي وسلوكية متشددة . هذا النمط من الاحزاب ما عاد قائماً او رائجاً في العالم المعاصر. الحركة المطلوبة هي ائتلاف عريض القاعدة الشعبية ذو برنامج سياسي واقتصادي واجتماعي متطور وسلوكية مرنة وإنفتاح على الآخر السياسي والثقافي . المطلوب تحويل التعدّد اللبناني المرهق الى توحّد حضاري حر ومتطور.
بمثل هذه الحركة الجامعة والفاعلة نستطيع إسقاط نظام المحاصصة الطائفية . هل من مقاربة أجدى وأفعل ؟