نشرت بجريدتي "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 28/10/2019
الحراك غير المسبوق... مخروق
فهل المقصود جرّه الى الفوضى والحرب الأهلية ؟
د. عصام نعمان
تشرين الاول/اكتوبر هو شهر الحرائق والأعاصير في لبنان . يوم الثلاثاء الخامس عشر منه اندلع إعصار ناري أحرق الأخضر واليابس على امتداد مساحة البلاد من الشمال الى الجنوب.
الخميس السابع عشر منه تفجّر إعصار وطني غير مسبوق ، يضج بفرحة غضبٍ عارم ، ملأت جماهيره الشوارع والساحات، عابرةً المناطق والطوائف والمدائن بصورة عفوية وبلا قائد.
الجمعة الخامس والعشرون منه فجّر قائد المقاومة السيد حسن نصرالله إعصاراً سياسياً مترعاً بحقائق ووقائع صادمة مفادها ان الحراك الوطني الهادر غير المسبوق ... مخروق ، وأنه بات غير عفوي ، وان الوضع اللبناني دخل دائرة الإستهداف الإقليمي والدولي، وان لديه معطيات وشكوك حول وجود مساعٍ لجرّه الى حرب اهلية ، داعياً جمهور المقاومة الى مغادرة ساحات الحراك تفادياً لإحتكاكاتٍ واشتباكات تصبّ زيتاً على النار وتخدم مآرب الأعداء.
قائد المقاومة لم يضع المشاركين بالحراك في سلة واحدة كون غالبيتهم وطنية ، صادقة ومعانية من ظلمٍ وفقر وبطالة وضيق عيشٍ واستغلال ، لذلك شدّد بقوّةٍ على وجوب إمتلاكها قيادة موحدة او ، في الأقل ، قيادات في كلٍّ من مناطق وجودها ونشاطها وذلك لتصويب حركتها والتنسيق فيما بينها ، والمبادرة الى مفاوضة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي كان دعاها للحوار بغية التفاهم على مخرج آمن من المحنة العاتية. نصرالله ناشد المتظاهرين أن فاوضوا تحت ضغط الشعب ، فلا احد يطرح التفاوض لدفع الناس الى مغادرة الشارع .
كيف كان حال الحراك الشعبي عشية تفجّر إعصار نصرالله ؟
ليس من قبيل التبسيط القول إن تيارين رئيسيين يتقاسمان الحراك والتظاهرات التي قدّرت رويترز عديدها بما يناهز المليون والنصف مليون. التيار الاول ، الأعرض ، قوامه جماهير احزاب ونقابات وتشكيلات مجتمع مدني ترفع شعارات سياسية راديكالية شتى ابرزها ثلاثة : "الشعب يريد إسقاط النظام"، "الشعب يريد إسقاط الحكومة" ، "استردوا الاموال العامة المنهوبة وحاكموا سارقيها".
التيار الثاني، الأقل حراكاً والاكثر نفوذاً، يرفض إسقاط رئيسيّ الجمهورية والحكومة ، ويدعو الى التركيز على ضرورة تفادي الإنهيار المالي والاقتصادي بتنفيذ اصلاحات واجراءات مالية واقتصادية وادارية جدّية جرى التوافق عليها واعلنها رئيس الحكومة سعد الحريري بصيغة ورقة إقتصادية إصلاحية وحدّد لتحقيقها مهلاً زمنية.
التيار الاول راديكالي ، متعدد الألوان والمشارب والمطالب، يُرسي منطقه على حجج سياسية مستمَدّة من الواقع والتجارب. يقول ناشطوه إن النظام السياسي الطائفي ترهّل وتداعى بفعل سوء تدبير اهل السلطة الفاسدين ما ادى الى تراكم أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية حادة ، وتصاعد خيالي للدين العام، ودفع البلد الى حافة الانهيار، وانه لا يعقل ان يقوم حكام فاسدون بمحاربة الفساد او بمقاضاة الفاسدين، وان الخروج من الازمة المزمنة يتطلب المبادرة الى إقصاء هذه الطبقة الطائفية الفاسدة سلمياً بقانون للإنتخابات يكون لبنان بموجبه دائرة وطنية واحدة على اساس النسبية، وتنفيذ المادة 22 من الدستور التي تقضي بإنتخاب مجلسين تشريعيين: الاول مجلس نواب على اساس وطني لاطائفي، والآخر مجلس للشيوخ لتمثيل الطوائف يختصّ بالقضايا المصيرية.
التيار الثاني مترصّن ، يرى ان الظروف الداخلية والاقليمية لا تسمح بإقصاء رئيسيّ الجمهورية والحكومة مخافةَ الوقوع في فراغ قد يستغرق تجاوزه سنوات ، وقد يؤدي الى انهيار مالي واقتصادي وفوضى سياسية عارمة، وان النهج الأفضل هو الإسراع في معالجة الأزمة المالية والاقتصادية لتفادي الإنهيار، ووضع الأسس وإقامة الهيئات والمؤسسات اللازمة لإسترداد الاموال العامة المنهوبة ، ومحاسبة المسؤولين عن النهب والسرقة برفع السرّية المصرفية والحصانة القضائية عن الرؤساء والوزراء والنواب والمدراء والمسؤولين الذين يتعاطون ولهم صلة بالمال العام.
الى ذلك ، يشير بإرتياب قياديون وطنيون وتقدميون من خارج التيارين الى تشكيلات في المجتمع المدني مرتبطة بمؤسسات اميركية معروفة تقوم بتمويلها كي تتولى هي بدورها، وبالتعاون مع احزاب لبنانية يمينية ، تمويل بعض الجماعات المشاركة في الحراك والساعية الى توجيه أنشطته وجهةً معادية لحزب الله وسلاح المقاومة ، كما تقوم بقطع الطرقات والإشتباك بقوات الجيش والامن الداخلي في محاولةٍ مريبة لجرّ البلاد الى الفوضى والحرب الأهلية . ولا يستبعد القياديون هؤلاء ان تكون هذه التشكيلات جزءاً من مخطط مريب تبدّت ملامحه اخيراً في تقارير وتعليقات صحف عبرية عدّة ، عنوانه الأبرز السعي الى مشاغلة لبنان وقوى المقاومة وحلفائها داخلياً بإشتباكات متمادية بقصد إضعافه وكسر وحدته وشلّ مجابهته لـ "اسرائيل".
اذ يشتد الصراع بين التيارين المتصارعين في غمرة تدخلات خارجية بدأ تأثيرها يتزايد ، يأمل اللبنانيون الوطنيون ان يتعظّ اهل السلطة من دروس التاريخ المستقاة من تجارب دول اخرى في الشرق والغرب ، وان يكفوّا عن الإصرار على إعادة انتاج انفسهم بنظام المحاصصة الطائفية ، وان ينفتحوا على العصر وعلى اجيال الشباب الحالمين بالتغيير الديمقراطي والنهضة. كما يأمل اللبنانيون الوطنيون ان يتعقل الثائرون من اهل التيار الراديكالي المناضلون من اجل الإصلاح والعدالة فيتوحدوا بمختلف أجنحتهم ويختاروا لأنفسهم قيادة وبرنامجاً تغييرياً متكاملاً ونهجاً عملياً يقود ، بالصبر والكفاح والمثابرة، الى تحقيق اهدافهم العليا في الحرية والدولة المدنية الديمقراطية وحكم القانون والعدالة والتنمية.
... وتبقى أولى الاولويات واكثرها إلحاحاً واهمية في هذه الظروف العصيبة ألاّ تتحوّل فرحة غضب جماهير الحراك الى غضبٍ بلا فرح ينعكس فوضى وخراباً وحرباً اهلية تستنزف البلاد والعباد .