نشرت بجريدتي "القدس العربي" (لندن)
و"البناء" (بيروت) تاريخ 21/10/2019
سقط النظام الطائفي ولا بد من :
مؤتمر وطني تأسيسي لبناء دولة مدنية ديمقراطية
د. عصام نعمان
تحت وطأة تظاهرات جماهيرية عفوية كاسحة وغير مسبوقة عمّت كل المناطق والطوائف والعقائد يظللها علم لبنان الواحد ، ونتيجةَ معاناة ازمةٍ مزمنةٍ خانقة اقتصادية واجتماعية ومعيشية ، وحالٍ متمادية من اللادولة ، تهاوى النظام الطائفي الفاسد بكل اهله واجهزته وجلاوزته . عجّلت في ذلك ثلاثة عوامل : اولها، انقسام الشبكة السياسية المتحكّمة على نفسها وخروج بعض اركانها على احكام الدستور ووثيقة الوفاق الوطني (الطائف) ومثابرة بعضهم الآخر على الإذعان لتدخلات سافرة من قوى خارجية معادية. ثانيها ، تشتت القوى الوطنية والتقدمية المفترض بها ان تشكّل معارضةً فاعلة وبديلاً للنظام الطائفي الفاسد . ثالثها ، إحتدام الصراع في الاقليم بعد انهيار النظام العربي الاقليمي، واعتزام الولايات المتحدة و"اسرائيل" تصفية قضية فلسطين من خلال ما يُسمّى "صفقة القرن" والفتن المذهبية والحروب الأهلية.
في غمرة هذه التظاهرات والتحديات ، صدر عن اهل القرار موقفان حاسمان : الاول لرئيس الحكومة سعد الحريري ، والثاني لأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله . الحريري امهل نفسه وشركاءه في السلطة 72 ساعة للتوافق على خطة متكاملة للإصلاح والإنقاذ، مقرونة بتهديد ضمني بالإستقالة اذا ما تعذّر تبنّيها . نصرالله أيّد مطالب المتظاهرين المحقة ، لكنه عارض إسقاط العهد والحكومة ، داعياً اهل السلطة والقرار الى تحمّل مسؤولياتهم والمبادرة الى مواجهة خطر الإنهيار المالي والإقتصادي ، ومهدداً بنزول حزب الله وجمهوره الى الشارع في كل مناطق البلاد اذا ما أحجم اهل القرار عن تحمل المسؤولية وبذل الجهود الكفيلة بتفادي الإنهيار .
الى اين يتجه المشهد اللبناني ؟
لن يبتئس اللبنانيون اذا ما تمكّن الحريري وشركاؤه في السلطة من النجاح في تحقيق خطته الإنقاذية . لكن تعاظم الإنتفاضة الشعبية ضد النظام الطائفي من جهة ، وإنقسام اهل السلطة فيما بينهم وضيق هامش المناورة امامهم من جهة اخرى يجعلان فرص الحريري بالنجاح محدودة . هذا الإحتمال الراجح يعزز قدرات وحظوظ خصوم النظام الطائفي الفاسد المطالبين بإسقاطه وبإصلاح جذري نهضوي شامل .
لتحقيق الإصلاح النهضوي المنشود ، تستطيع قوى التغيير سلوك مسار سياسي إصلاحي قوامه الأسس والإجراءات الآتية :
اولاً ، عدم التورط مع الشبكة السياسية المتحكمة في ايّ صيغةٍ تسووية لتوافق وطني مصطنع يُراد منه إعادة انتاج النظام او تجديد مؤسساته وآلياته بل دعوة القوى الوطنية والتقدمية الحيّة الى إعمال الفكر وتفعيل الحوار بغية انتاج برنامج اولويات سياسية واقتصادية واجتماعية متكاملة لمعالجة حال لبنان المستعصية والإنتقال به ، من خلال جبهة وطنية عريضة ، الى حال الحرية والوحدة والنهضة وحكم القانون والعدالة والتنمية والإبداع.
ثانياً ، الضغط على اهل القرار في جميع المستويات والمؤسسات للتسليم بأن البلاد تمرّ في ظروفٍ صعبة واستثنائية ، وان الظروف الإستثنائية تستوجبُ بالضرورة تدابير استثنائية للخروج منها ، وان ذلك يستوجب بدوره اتخاذ التدابير الآتية :
(أ) تنحية الشبكة المتحكّمة وتأليف حكومة وطنية جامعة قوامها قياديون اختصاصيون من خارج اهل النظام لمعالجة القضايا والمشكلات الاكثر إلحاحاً وأهمية، واتخاذ القرارات والتدابير الاستثنائية اللازمة بشأنها .
(ب) قيام الحكومة الوطنية الجامعة بالدعوة الى عقد مؤتمر وطني تأسيسي مؤلّف من مئة شخصية وطنية مقتدرة.
(ج) يتكوّن المؤتمر من : اربعين عضواً من الكتل البرلمانية التي يضمّ كلٌ منها اربعة اعضاء على الاقل، يمثلون واقعياً وافتراضياً نسبة الـ 49 في المئة من اللبنانيين الذين شاركوا في الإنتخابات الأخيرة بحسب بيان وزارة الداخلية،
وستين عضواً من الاحزاب والنقابات وتشكيلات المجتمع المدني يمثلون نسبة الـ 51 في المئة من اللبنانيين الذين قاطعوا الإنتخابات النيابية الأخيرة .
(د) تسمّي قيادات الكتل البرلمانية والأحزاب والهيئات المشار اليها في الفقرة (جـ) ممثليها في المؤتمر . واذا تعذّر عليها التوافق ترفعُ اقتراحاتٍ بأسماء شخصياتٍ مقتدرة في صفوفها الى الحكومة الوطنية الجامعة كي تقوم بإختيار اعضاء يمثلونها من بينهم.
(هـ) تتمّ عملية تكوين عضوية الهيئة العامة للمؤتمر الوطني التأسيسي في مهلة اقصاها شهر واحد من تاريخ انطلاقها ، على ان تدعو الحكومة الوطنية الجامعة فور انتهاء المهلة الى عقد المؤتمر بالأعضاء الذين تمّت تسميتهم شرط ألاّ يقلّ نصابه عن خمسين من مجموع اعضائه المئة.
(و) يعقد المؤتمر الوطني التأسيسي جلسات متواصلة لإنجاز مهامه في مهلة اقصاها شهر واحد.
ثالثاً، يهدف المجلس الوطني التأسيسي في عمله الى تحقيق المبادىء والاصلاحات التغييرية النهضوية الآتية :
(أ) الخروج من النظام الطائفي الفاسد بإرساء قوعد الدولة المدنية الديمقراطية.
(ب) اعتبار قوانين الإنتخاب المتعاقبة منذ الإستقلال غير دستورية، وان اعتماد قانون انتخاب يؤمّن صحة التمثيل الشعبي وعدالته شرطٌ ومدخلٌ لبناء الدولة المدنية الديمقراطية ومنطلقٌ لإقرار سائر القوانين والإصلاحات السياسية والاقتصادية والإجتماعية النهضوية.
(جـ) اقرار قانون جديد للإنتخاب وفق احكام الدستور، ولاسيما المادتين22 و27 منه.
(د) اعتماد النسبية في دائرة انتخابية وطنية واحدة.
(هـ) يكون مجلس النواب مؤلفاً من 130 نائباً ، مئة (100) منهم يُنتخبون بموجب لوائح مرشحين مناصفةً بين المسيحيين والمسلمين من دون التوزيع المذهبي للمقاعد، ويُنتخب الثلاثون (30) الباقون وفق التوزيع المذهبي على ان يكون لكل ناخبٍ صوت واحد.
(و) يجتمع النواب المنتخبون جميعاً في هيئة مشترعة واحدة ويقومون بتشريع قانونين :
الاول يقضي بإعتبار النواب المئة المنتخبين على اساس المناصفة من دون التوزيع المذهبي للمقاعد قوامَ مجلس النواب المنصوص عليه في المادة 22 من الدستور ، وإعتبار الثلاثين نائباً المنتخبين على اساس التوزيع المذهبي قوامَ مجلس الشيوخ وفق المادة عينها. الثاني يقضي بتحديد صلاحيات مجلس الشيوخ بإعتماد معظم المواضيع المعتبرة اساسية في الفقرة 5 من المادة 65 – دستور.
رابعاً ، يُطرح مشروع قانون الإنتخاب الديمقراطي الجديد مع مشروع قانون تعديل احكام الدستور استكمالاً لمضمون المادتين 22 و 27 منه على استفتاء شعبي عام ، ويكون هذان القانونان شرعيين ومستوجبين التنفيذ ، ويُعتبر مجلس النواب القائم منحلاً بموجبهما بمجرد نيل الإستفتاء موافقة لا اقل من خمسين في المئة من اصوات المشاركين .
خامساً ، تقوم الحكومة الوطنية الجامعة بإجراء انتخابات تشريعية وفق احكام قانون الإنتخاب الجديد وانتاج مفاعيله الدستورية والقانونية.
ماذا لو تعذّر ، لسبب او لآخر ، سلوك هذا المسار التغييري النهضوي الديمقراطي؟
ان القوى الحيّة عموماً والقوى الوطنية والتقدمية خصوصاُ المؤتلفة في جبهة وطنية عريضة مدعوة الى اعتماد خيار العصيان المدني ومباشرة تنفيذ متطلباته ضد مؤسسات النظام الطائفي الفاسد والقائمين بإدارته ، وتصعيد الضغط الشعبي لغاية تسليم المسؤولين ذوي الصفة بتنفيذ برنامج التغيير الديمقراطي النهضوي بمبادئه واسسه واجراءاته جميعاً .
إن البقاء في حال الطائفية والفساد والحروب الأهلية موتٌ بطيء ومحتّم، فيما الإنطلاق الى التغيّر والتغيير الديمقراطي النهضوي ارتقاء الى حياة حضارية جديدة وابداعية، وقد آن الآوان .