تاريخ 14/10/2019
مع الغزو التركي لسوريا...
هل تستعيض اميركا بـِ "داعش" عن اكرادها المخذولين ؟
د. عصام نعمان
اخيراً فعلها رجب طيب اردوغان . غزا سوريا في شمالها الشرقي (رأس العين) بعدما غزاها ، السنة الماضية ، في شمالها الغربي (عفرين). خطته المعلنة ("المنطقة الآمنة") ترمي الى السيطرة ، في مرحلتها الاولى، على ما لا يقلّ عن 450 كيلومتر مربع من اراضي سوريا على طول حدودها مع تركيا . اغراضه المضمرة ثلاثة :
( أ ) تدمير قدرات مجموعة من الاكراد السوريين المتحالفين مع اميركا لإقامة كيان منفصل عن الحكومة المركزية في دمشق ، وقطع تعاونهم مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني التركي المصنّف ارهابياً لدى دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" .
(ب) إستخدام "المنطقة الآمنة" العازلة في شمال شرق سوريا ورقة لتأمين مشاركة وافرة لتركيا في استثمار النفط السوري الغزير في باطنها.
(جـ) نقل نحو مليوني مهاجر سوري مقيمين حالياً في تركيا الى المدن والبلدات والقرى الواقعة ضمن "المنطقة الآمنة" وفي محيطها .
بإستثناء اطراف محور المقاومة الذين سارعوا الى التنديد بالعدوان التركي على سوريا ، اكتفى معظم دول الاقليم والاتحاد الاوروبي واميركا بالإعتراض على ما فعلته تركيا وليس معارضتها ، وبالحؤول تالياً دون صدور قرار في مجلس الامن الدولي يندّد بفعلتها . لذلك كله دلالات لافتة :
أولاها ، ان تركيا ما كانت لتقدم على غزوتها السورية لولا ضوء اخضر من اميركا تجلّى بسحب قواتها من الشمال السوري.
ثانيتها ، أن قادة منظومة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) الكردية تمسكوا بموقف الحوار مع اميركا رغم انها خذلتهم ما يوحي بأن ادارة ترامب "طمأنتهم " بأنها ستكون وسيطاً بينهم وبين تركيا من اجل التوصل الى تسوية سياسية للنزاع.
ثالثتها ، ان روسيا دعت وتدعو الى مفاوضات عاجلة بين تركيا وسوريا لتدارك التداعيات السلبية للغزوة التركية من جهة ، ولإنقاذ ما كان جرى التفاهم عليه في مؤتمري استانا وسوتشي بين روسيا وايران وتركيا، من جهة اخرى .
رابعتها ، ان دول الإتحاد الاوروبي اعترضت على الغزوة التركية ولم تعارضها مخافةَ ان ينفذ اردوغان تهديده بفتح الأبواب امام المهاجرين السوريين للهجرة اليها ، وانها تأمل تالياً بتسريع إجراء مفاوضات بين الدول ذات الصلة بغية التوصل الى تسوية سياسية للنزاع.
خامستها ، ان اشتباكات ميدانية وتجاذبات سياسية متطاولة ستأخذ مداها قبل ان تتوصل الأطراف المعنية ، الاقليمية والدولية ، الى تسوية مقبولة للنزاع ، ذلك لأن سوريا لن ترضى بأقل من استعادة وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني ، ولأن اميركا و"اسرائيل" ستكونان جادتين في محاولات تطويل امد الحرب بغية استكمال عملية تفكيك سوريا وتقسيمها.
في سياق مساعي اميركا ، ومن ورائها "اسرائيل" ، لتفكيك سوريا وإستنزاف ايران وسائر اطراف محور المقاومة على اراضيها ، يجري التحضير مجدداً لتفعيل دورٍ لـِ "داعش" تستعيض به اميركا عن حلفائها الاكراد المخذولين . ذلك لأن لـِ"داعش" وجوداً فاعلاً في الأطراف الشمالية الشرقية لمحافظة دير الزور السورية ، كما له "وجود بشري" لافت في مخيمات اقامتها القوات الاميركية في محافظتي الحسكة والرقة لإحتجاز اسرى "داعش" وعوائلهم، واسندت حراستها الى حلفائها من الاكراد السوريين . فقد صرح مسؤول العلاقات الخارجية في "الادارة الذاتية" الكردية عبد الكريم عمر ان "قسد" تعتقل 12 الف رجل من "داعش" ، وان بين هؤلاء 2500 الى ثلاثة الآف اجنبي من 54 دولة ، هذا ناهيك عن عوائل اسرى "داعش" في معتقل الهول وغيره من المعتقلات التي لا يقلّ عدد معتقليها عن عشرين الفاً .
الى ذلك ، تسعى ادارة ترامب ، نتيجةَ ضغوط قوية من مجلسيّ الكونغرس ، الشيوخ والنواب ، الى التوصل لتسوية مع السلطات التركية تبقى بموجبها المسؤولية عن ادارة مخيمات معتقلي "داعش" وعوائلهم في محافظة الحسكة في عهدة العناصر الكردية والسورية المتعاملة مع الاميركيين . كما تسعى ادارة ترامب الى الحدّ من اندفاع القوات التركية الى عمق محافظتي الرقة والحسكة وذلك بغية عدم سحق "قوات سوريا الديمقراطية " (قسد) المتعاونة معها ، ولإدامة قوات مناوئة للحكومة السورية ومتحالفة مع اميركا في مناطق شرق الفرات حيث مكامن النفط والغاز.
هذه الترتيبات العسكرية الميدانية التي تسعى ادارة ترامب الى تثبيتها تلقى ، بطبيعة الحال ، ترحيباً من "اسرائيل" التي ساءها كثيراً تخلي واشنطن عن حلفائها الاكراد وتخوّفت تالياً من إنسحاب هذه السياسة التراجعية على سائر حلفاء اميركا في المنطقة . وإزاء الضغوط المتزايدة في الكونغرس على ادارة ترامب لتقليص عملية سحب قواتها من سوريا ، وربما لاحقاً من العراق ، قامت وزارة الدفاع (البنتاغون) بإنتهاز حادثة الهجمة الصاروخية على ناقلة النفط الإيرانية قبالة ساحل مدينة جدّة على البحر الاحمر ، لنشر ثلاثة الآف جندي اميركي اضافي في السعودية على ان تتحمل الرياض النفقات المترتبة على ذلك !
"اسرائيل" المتحسّبة لتنامي قوة ايران العسكرية ونفوذها السياسي في غرب آسيا ، لن تكفيها التدابير والترتيبات الاميركية سالفة الذكر . وسائل الإعلام الإسرائيلية تضجّ بنقد لاذع لخطة نتنياهو في مواجهة ايران وقوى المقاومة العربية وتؤكد فشلها . نتنياهو ، المنشغل بتدبّر مصيره السياسي بعد إخفاق تحالف أحزاب اليمين في الإنتخابات الاخيرة لإبقائه في السلطة وإنقاذه تالياً من حكم قضائي بالسجن ، لم يتأخر في ادراك تداعيات تقلّبات ترامب الشخصية والسياسية على أمن "اسرائيل" ووجوب استدراك المزيد من المخاطر الامنية ، فباشر على عجل مقاربةً مغايرة لمواجهة ايران قوامها مضاعفة التوظيف في صناعة الصواريخ البالستية الدقيقة ، الدفاعية والهجومية ، لتفادي الإعتماد على دعمٍ عسكري اميركي في المنطقة آخذ بالإنكفاء .
غير ان كل هذه التدابير والترتيبات والتحوّطات المستجدة لا تغني اميركا و"اسرائيل" عن متابعة التوظيف في "الحرب الناعمة" بما هي عقوبات اقتصادية وفتن طائفية وحروب اهلية ودعم لتنظيمات ارهابية مهمتها نسف الإستقرار بتدويم الإضطرابات الامنية . وعليه ، فإن خيار العودة الى توظيف "داعش" وامثاله من تنظيمات الإرهاب المسلّح سيكون عنوان الهجوم الصهيواميركي المتجدد في الصراعات التي ما زالت تعصف بسوريا والعراق ولبنان وفلسطين المحتلة واليمن.
... وفي مقابل خيار "داعش" وامثاله ، تبقى المقاومة هي الخيار والنهج الأكثر فعالية في مواجهة اعداء الأمة.