جريدة"القدس العربي"
و"البناء" تاريخ 7/4/2014
الإعتراف بالإحتلال شرط لنيل الإستقلال
د عصام نعمان
المفاوضات هي ارقى اشكال المساومات صحيح ان الجولة الاخيرة من المفاوضات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، بحضور المبعوث الاميركي مارتن انديك ، كانت "معركة قاسية تخللتها تهديدات مباشرة" ، كما وصفتها مصادر اسرائيلية ، لكنها لم تؤدِ قط الى قطع مسار التفاوض حتى قرار القيادة الفلسطينية بالإنضمام الى معاهدات دولية ومؤسسات تابعة للأمم المتحدة من جهة وإلغاء "اسرائيل" قرار الإفراج عن الدفعة الرابعة من الأسرى الفلسطينيين من جهة اخرى ، لم يعتبرهما جون كيري بمثابة قطع للمفاوضات أنحى باللائمة على الطرفين واصفاً ما حدث بأنه "هوة يقتضي ردمها بسرعة"
الى اين من هنا ؟
الأرجح الى مزيد من الإتصالات ، مباشرةً او مداورةً ، من اجل تدوير الزوايا والعودة ، ربما ، الى اطول مفاوضات في التاريخ المعاصر إلاّ اذا قرر احد الطرفين سلوك طريق موازٍ او معاكس يعتقد انه اكثر جدوى في المدى القصير او الطويل
لا يبدو بنيامين نتنياهو في وارد تقديم "التنازلات" التي يريدها الفلسطينيون للموافقة على تمديد المفاوضات حلفاؤه اليمينيون المتطرفون يرفضون مجرد الإشارة الى تجميد الإستيطان في القدس يرفضون دولة فلسطينية على "حدود" 1967 يرفضون ازالة الحصار عن قطاع غزة يرفضون الإفراج عن 1200 اسير فلسطيني بينهم مروان البرغوتي واحمد سعادات وفؤاد الشوبكي يرفضون "منح" السلطة الفلسطينية السيطرة على المنطقة "ج" في الضفة الغربية
هذه "التنازلات" هي الحد الادنى المطلوب كي يوافق محمود عباس وفريقه على تمديد المفاوضات من دون ان يخسروا ماء الوجه لكن نتنياهو يعلم ان القبول بها يعني انهيار الإئتلاف اليميني وسقوط حكومته
في المقابل ، يعي محمود عباس جيداً ان المفاوضات اضحت متاهة ، وان لا جدوى البتة من عقد اي اتفاق جديد مع "اسرائيل" لأن قادتها لا يمكن ان يلتزموا بما يتعهدون به ليس ادل على ذلك من اتفاقات اوسلو للعام 1993 فقد امتنعت "اسرائيل" عن تنفيذ معظم احكامها ، بل هي استغلتها لتوسيع دائرة الإستيطان والإمعان في قمع الفلسطينيين امنياً ومحاصرتهم سياسياً وإقتصادياً ولعل اسوأ ما انتهت اليه اتفاقات اوسلو انها كرّست الإحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية في ظل صيغة شكلية ملتبسة اسمها السلطة الفلسطينية
ما عاد بإمكان الفلسطينيين العودة الى نهج المزيد من الشيء نفسه لا يمكن العودة الى التفاوض بشأن حقوق وامور جرى "الإتفاق" عليها سابقاً حتى امين سر منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه ، صاحب السجل الطويل الحافل بمفاوضة الإسرائيليين رسميينَ ومعارضين ، فجّر سخطه على إلغاء الإفراج عن آخر دفعة من الأسرى الفلسطينيين بقوله لوكالة "فرانس برس" : "اسرائيل اعتادت التنصل من الإتفاقات الموقعة معها ، لهذ السبب فإن شروط اي مفاوضات مقبلة إن حصلت يجب ان تتغير جذرياً "
لعل تغيير شروط المفاوضات هو ما كان اضمره ابو مازن وفريقه عند إتخاذ قرار الإقدام على الإنضمام الى 15 معاهدة دولية وإعتزام الإنضمام الى مؤسسات عدّة مهمة تابعة للأمم المتحدة مع الحرص على إعلان عدم التخلي عن مسار المفاوضات هذا القرار الجريء والمؤثر يتيح للفلسطينيين مسارين ، لكل منهما فوائد شتى : الإستحصال من "اسرائيل" على تنازلات وافرة ومجدية في حال موافقة القيادة الفلسطينية على تجميد تنفيذ قرارها المشار اليه ، او إمعان "اسرائيل" في انكار حقوق الفلسطينيين ما يؤدي الى تنفيذ قرار القيادة الفلسطينية الاخير ومتابعة مفاعيله المجدية
لعل اهم مفاعيل قرار القيادة الفلسطينية ما اوردته صحيفة "هآرتس" في سياق تحذيرها حكومة نتنياهو من مغبة سلبيتها المتمادية :
" اذا صارت فلسطين عضـواً فـي المعاهـدات
الدولية الاساسية فإن هذا سيجعل المدعي العـام
للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي قادراً علـى
النظر في الدعاوى التي اقامها الفلسطينيون على
"اسرائيل" ، وسيفتح الباب امـام التحقيـق مـع
الإسرائيليين ايضـا في موضوع المستوطنات ،
لأن قانون المحكمة الدولية يمنع دولة محتلة من
نقل سكانها الـى اراضٍ تحتلها وعملياً تبـدو
الخطوة الفلسطينية الاخيرة تحركاً إضافياً مـن
اجل تأسيس مكانـة فلسطين كدولة ، وهـي ايضا
رسالة تحذير موجهة الى "اسرائيل" من احتمال جرّ
ممثليها الى مقاعد الإتهام في لاهاي"
اجل ، لعل أهم مكسب حقيقي يحصل عليه الفلسطينيون من الإنضمام الى المعاهدات الدولية ، ولاسيما اتفاق روما المتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية ، هو انتزاع إعتراف دولي بأن الوجود الإسرائيلي ، الامني والإستيطاني ، في الضفة الغربية هو احتلال غير شرعي لدولة قائمة وفق احكام القانون الدولي وميثاق الامم المتحدة ذلك ان بقاء الضفة محكومة بأحكام اتفاقات اوسلو يجعلها في وضع ملتبس: فلا هي دولة سيدة مستقلة بمعايير القانون الدولي ، ولا "اسرائيل" تتعامل معها كدولة ، وبالتالي فإن القادة الصهاينة يثابرون على اعتبارها جزءاً من "ارض اسرائيل" التواراتية ويتابعون استيطانها من دون ان يواجهوا كبحاً او حتى مجرد اعتراضٍ وازن من الامم المتحدة
لا معنى ولا جدوى لإتفاقات اوسلو ، ولا مفعول سيادياً لإعتراف الامم المتحدة بفلسطين كـ "دولة مراقبة"، ولا استقلال حالياً ولا في المدى المنظور لدولة فلسطين في ظل اتفاقات اوسلو غير النافذة وبقاء الاحتلال الإسرائيلي بكل سلطاته ومظاهره ومفاعيله يجب الحصول ، اولاً ، على إعتراف من الامم المتحدة والمؤسسات التابعة لها ودول العالم بإحتلال "اسرائيل" للضفة الغربية كشرط لتسويغ المقاومة والمطالبة بإستقلال الدولة والارض معاً مع الإعتراف الدولي بالإحتلال الإسرائيلي تصبح المقاومة عملاً مشروعاً ومقبولاً ومدعوماً ومجدياً
الى ذلك ، فإن توصيف وجود "اسرائيل" في الضفة الغربية بأنه احتلال ينهي عملياً اكذوبة اتفاقات اوسلو ، ويفتح الطريق امام نزع شرعية "اسرائيل" ذاتها على الصعيد الدولي، ويُكره قادتها على القبول بتغيير اسس المفاوضات مع الفلسطينيين ، بل مع دولة فلسطين السيدة ، على نحوٍ يؤدي الى تسريع وتيرتها والتوصل خلالها الى اتفاقات مجدية وملزمة وفي حال كابرت اسرائيل ومانعت في سلوك سبيل المفاوضات على اسس مغايرة تماماً لتلك التي جرى اعتمادها طيلة السنين العشرين الماضية ، فإن باب المقاومة الشعبية ينفتح على مصراعيه بشكلٍ يؤدي الى توحيد الارادة الوطنية الفلسطينية وعلى تزخيم الكفاح وتحويله الى حركة تحرير وطني لفلسطين اولاً وللأمة تالياً
إن التحوّلات الكبرى في تاريخ الامم لا تتكامل في المفاوضات والمساومات بل في المقاومة المدنية والميدانية بما هي القاطرة المحركة للطاقات والقدرات والصانعة للمصائر