نشرت بجريدتي "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 14/8/2019
رشوة الـ S-400 الروسية لا تعادل
هدية "شرق الفرات" الاميركية...
د. عصام نعمان
ليس دونالد ترامب ، المقاول العقاري المرموق، اول من اعتبر السياسة في عالمنا المعاصر بازاراً للمساومة والمقايضة والبيع والشراء . رجب طيب اردوغان سبقه الى ذلك مذّ كان رئيساً لبلدية اسطنبول ومن ثم سياسياً طموحاً مترعاً بأمجاد بني عثمان ، ومدججاً بشراكةٍ سياسية وعسكرية مع اميركا الاطلسية ("الناتو"). فلاديمير بوتن ادرك مزايا الرجلين وظنّ ان بإمكانه منافستهما في البازار الشرق اوسطي المفتوح ، ولاسيما في ساحته السورية.
مطامح اردوغان هي نفسها مطامعه متنكرة بأزياء ديبلوماسية . مطمحه الاول بناء زعامة طاغية في الداخل تحاكي زعامة مصطفى كمال اتاتورك. مطمحه في الخارج استعادة تراث السلطنة العثمانية ونفوذها ، سياسياً و"عقارياً" ان صحّ التعبير. وسيلته الى تحقيق مطامحه ومطامعه مزاوجة غير مسبوقة بين القومية الطورانية والإسلام . تركيا بلد تعدّدي لا يشكّل الاتراك فيها اكثرية وازنة. من هنا تنبع رؤية اردوغان العملانية بما هي مزيج قومي ــ إسلامي معدّ ومغرٍ لتتذوقه مختلف شرائح المجتمع التركي.
تركةُ بني عثمان الاوروبية توزعت على اطراف عدّة ، ليس بينهم من يمتلك اكثرية مسلمة تمكّن السلطان التركي المعاصر من اكتسابها ، في حين ان تركة بني يعرب تبدو اقرب منالاً . فالعرب شتات، ليس فيهم دولة متماسكة سوى مصر التي تهافتت بعد غياب جمال عبد الناصر وفقدت نفوذها الاقليمي. "السلطان" اردوغان حاول بادىء الامر إجتذاب سوريا مترسملاً على مزاياً ثلاث: سمعة عاطرة إكتسبها بتصدّيه اللافت لشمعون بيريز في عكاظ "دافوس" السويسرية، وتضامن إعلامي مبكر مع حركة "حماس" الإسلامية في غزة، واعتماد ضمني على "اخوة السلاح" مع الاخوان المسلمين الذين لهم وجود غابر في سوريا يمكن تفعيله.
سِحرُ اردوغان لم ينطلِ طويلاً على بشار الأسد الذي وجد نفسه ، بعد اندلاع إضطرابات "الربيع العربي" ، في حرب مستعرة مع تنظيمات ارهابية ترفع لواء الإسلام ، جرى حشدها وتمريرها عبر تركيا ونشرها في مناطق سورية عدّة .
شراكة اردوغان المتوترة مع التنظيمات الإرهابية الآسيوية لم تعّمر طويلاً. فقد نافسته عليها اميركا واغرقتها بالمال والسلاح لغاية ان تأمّنت لها مطواعيتها. وفي السياق ، لاحظ اردوغان ان ترامب مدّ يده الى بعض الكرد السوريين واغراهم بإطّراد دعمه لغاية ان يقيموا في شرق الفرات كياناً بحكم ذاتي الامر الذي يتيح لهم تواصلاً وتكاملاً مع الكرد في جنوب شرق تركيا.
في هذه الأثناء كانت روسيا بوتن قد تنبهت الى مخاطر ما يبتغيه الاميركيون ، ومن ورائهم الإسرائيليون ، في سوريا : تفكيكها وتحويلها الى مجموعة من جمهوريات الموز المتناحرة ما يؤدي في نهاية المطاف الى وقوع كارثتين: تكريس "اسرائيل" قوةً مركزية اقليمية تمكّنها من تصفية قضية فلسطين، وإنهاء الوجود الروسي في البحر الابيض المتوسط المتمثّل بقاعدتهم البحرية في طرطوس السورية.
في حمأة الصراع في سوريا وعليها ، ظنّ بوتن ان في وسعه الإفادة من صِدام المصالح بين تركيا واميركا نتيجةَ الحراك الكردي ، فراودته فكرة جريئة : ان يجتذب تركيا بعيداً عن حلف شمال الأطلسي بتزويدها اسلحةً متطورة كانت اميركا تتردد بتزويدها اياها.
لم يتأخر اردوغان في ادراك "اللعبة" الروسية والمشاركة فيها املاً في اثارة "غيرة" اميركا ودفعها الى مقايضته اموراً عدّة لعل اهمها ردع الاكراد عن الإمعان في الإرتهان لها بحثاً عن حكم ذاتي وذلك مقابل تكريس حصة لاميركا في استثمار نفط وغاز منطقة شرق الفرات وبادية الشام . في مقابل هذه الهدية الثمينة ، قدّم بوتن لاردوغان رشوةً أقل قيمة : منظومة الدفاع الجوي المعروفة بإسم S-400.
ما ان عزّز اردوغان مركزه التفاوضي بتسلّمه منظومة S-400 حتى بدأ بمساومة اميركا على امور اربعة : وقف او أقلّه تقليص دعمها للأكراد السوريين ؛ تكريس حصتها في نفط سوريا وغازها الوفيرين ؛ دعم التنظيمات الإرهابية في محافظة ادلب ضد الحكومة المركزية في دمشق لإضعافها في سياق العمل لتفكيك سوريا كرمى لعينيّ "اسرائيل" ؛ وتمكين انقرة من اقامة "منطقة آمنة " على طول الحدود التركية - السورية كي تصدّر اليها غيرالمرغوب فيهم من اللاجئين السوريين ، وتعمل تالياً على تتريكها تمهيداً لضمها الى دولة السلطان العثماني المعاصر.
اميركا تظاهرت ، بادىء الامر ، بأنها منزعجة وبالتالي عازمة على حرمان اردوغان طائرات F-35 التي كان اوصى عليها ودفع ثمنها ، غير انها سرعان ما كشفت قناعها بالموافقة على تمكين اردوغان من اقامة "المنطقة الآمنة" الموعودة.
ليتفادى أية ردة فعل روسية سلبية على الخديعة التركية – الاميركية ، قام اردوغان بهندسة تهديدين لروسيا : عسكري وسياسي. العسكري تمثّل بدفع التنظيمات الارهابية الموالية له في ادلب الى إمطار القاعدة الروسية في مطار حميميم بوابل من القذائف الممكن تطويرها لاحقاً الى هجوم يستهدف قاعدتها البحرية في طرطوس. التهديد السياسي تمثّل بإعلان اردوغان في حضرة الرئيس الاوكراني "ان تركيا لم ولن تعترف بضم روسيا لشبه جزيرة القرم" !
كيف سيتخلّص الروس والسوريون والكرد من "خوازيق" اردوغان ؟
ارى ان الاطراف المتضررة الثلاثة ، بالاضافة الى العراقيين ، مضطرة عاجلاً او آجلاً ، الى التعاون الوثيق فيما بينها لمواجهة التحديات الاميركية – التركية ــ الإسرائيلية بالسرعة الممكنة . ولعل جدول اعمال اول اجتماع على مستوى عالٍ بين الاطراف الثلاثة سيتضمن بالضرورة ثلاث قضايا رئيسة :
.1 تحرير محافظة ادلب من الإرهابيين جميعاً ومن ... الاتراك ايضاً.
.2 تحرير منطقتي التنف وشرق الفرات السوريتين من القوات الاميركية المحتلة.
.3 تحرير الاكراد السوريين المخدوعين بالدعم العسكري الاميركي من اوهام مساندة الولايات المتحدة لسعي بعضهم الى اقامة حكم ذاتي في شمال شرق سوريا ودفعهم الى مفاوضة حكومة دمشق المركزية.
... بإختصار ، الحرب في سوريا وعليها مستمرة.