نشرت بجريدتي "القدس العربي"و"البناء"
تاريخ 24/6/2019
بين اميركا وايران
صراع الهيبة والسيادة سيطول ويتصاعد
د.عصام نعمان
ايّاً ما كانت الوقائع والدوافع والملابسات ، فإن إسقاط ايران طائرة التجسس الاميركية المسيّرة والاكثر تطوراً داخل اجوائها ومياهها الإقليمية يشكّل صفعة مدوّية لاميركا وانتصاراً باهراً لإيران.
اميركا ما زالت حائرة ومربَكة ومنقسمة على نفسها . رئيسها ترامب، الاحمق احياناً والمتقلّب دائماً ، يدعوه البعض في بلاده الى اتخاذ موقف متشدّد من ايران عنوانه ردّ الصاع صاعين. البعض الآخر يدعوه الى اتخاذ موقف رصين يحفظ ماء وجه اميركا وهيبتها من دون ان يتسبّب بحرب مع ايران تُغرق المنطقة برمتها في حرب طويلة ومكلفة .
ترامب حائر بين الدعوتين. يشعر بأن عليه مراعاة حلفائه في العالم ، ولاسيما الاوروبيين منهم ، الذين يدعونه الى الترصّن وعدم الإنزلاق الى هاوية عنفٍ غير مبرر وغير مجدٍّ في هذه الآونة. كما يشعر بأن عليه ايضاً مراعاة "اسرائيل" وحلفائها العرب الجدد ، اعداء ايران القدامى ، الخائفين على انفسهم ومصالحهم من الجمهورية الإسلامية وقوى المقاومة العربية التي تصطّف معها في جبهة واحدة ضد اميركا و"اسرائيل".
غير ان اول وأهم مَن يتوجّب على ترامب مراعاته ووضع مصالحه في الحسبان هو ترامب نفسه ، ترامب الذي رشّح نفسه ، عشيةَ إسقاط طائرته التجسسية ، الى ولاية رئاسية ثانية . فهل يعقل ان يفوز مرةً اخرى اذا ما نقض تعهداً للشعب الاميركي كان اعلنه في غمرة المعركة الرئاسية قبل نحو اربع سنوات ، بأنه سيكون حريصاً على عدم دفع اميركا الى خوض حرب طويلة الامد في العالم لأن تورّطها في حربٍ مع ايران ستكون بالضرورة حرباً طويلة ، مدمّرة ، ومكلفة ؟
الأرجح ان ترامب سيكون حريصاً على إشعار الشعب الاميركي ، كما العالم ، بأنه لن يفرّط في الدفاع عن هيبة اميركا التي نالت منها ايران كثيراً بإسقاطها طائرة التجسس الاكثر تطوراً من جهة ، ومن جهة اخرى تأكيد حرصه على عدم زج نفسه وبلاده في حربٍ مع ايران ستكون بالضرورة طويلة وذلك قبل اشهر معدودة من انتخابات رئاسية مفصلية. اجل ، الأرجح ان ترامب سيحاول توجيه ضربة لإيران يبدو معها انه لم يفرّط في "واجب" صون هيبة اميركا انما من دون الإنزلاق الى حرب طويلة مع الجمهورية الاسلامية . كيف ؟
تَردَدَ في اوساط سياسية وديبلوماسية عربية واممية ان ترامب قد يقوم بتوجيه ضربة محدودة ومؤذية لإيران مصحوبةً بدعوة معجّلة التنفيذ الى اجراء مفاوضات بين الدولتين لتسوية الخلافات المتفاقمة بينهما .
كيف يمكن ان يكون ردّ ايران ؟
اذا ما اخذنا ظاهر الحال في الإعتبار، فإن تصريحات مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي خامنئي وغيره من القادة السياسيين والعسكريين تشير الى امرين لافتين : الاول ، ان ايران لن تتردد في الردّ على ايّ اعتداء عليها بقوةٍ وعيارٍ متناسبين. الثاني ، ان ايران لن توافق على إجراء مفاوضات مباشرة مع اميركا طالما ان عدوان هذه الاخيرة يقع في غمرة انتهاك سيادتها على اقليمها البري والبحري والجوي.
ماذا عن المفاوضات غير المباشرة ؟
ليس ثمة مَن يتبرع بجوابٍ او رأي حول هذا السؤال في طهران . لكن ثمة سؤالاً آخر : اذا ما وجدت طهران ان لا مناص من الردّ على ايّ ضربة اميركية محتملة ، فهل ان ردّها سيكون على قواعد عسكرية ام على مصالح اميركية في المنطقة ؟ وهل يشمل او يتركّز على قواعد ومصالح لحلفاء اميركا الاقليميين كـ "اسرائيل" او السعودية والامارات العربية المتحدة والبحرين ؟
ليس ثمة جواب حاسم . غير ان بعض المعلّقين السياسيين والخبراء الإستراتيجيين المتابعين لوقائع الصراع الاميركي-الإيراني يعتقدون ان الامر يتوقف على مكان انطلاق ادوات العدوان. فإذا كان مكان انطلاق الطائرة او الصاروخ المعاديين قاعدة اميركية في دولة اقليمية ، فإن ايران لن تتردد في ضرب الدولة "المضيفة" لوسائل العدوان او المسهّلة لإنطلاقها من اراضيها.
كل هذه الامور مهمة وتستحق الإهتمام . لكن ثمة اموراً اخرى تبدو اكثر اهمية. إنها الدلالات التي يتوجّب استخلاصها من كل الذي جرى بغية تعزيز القدرة على توقّع او حتى ترجيح ما يمكن ان يحدث لاحقاً .
لعل اولى الدلالات المستخلصة هذه القدرة السيبرانية التي تتمتع بها ايران وتُمكّنها من استشعار طائرة التجسس الاميركية المسيّرة والاكثر تطوراً ومتابعة مسارها الطويل في اجواء ايران ومياهها الاقليمية. ذلك يشير بل يؤكد امتلاكها رادارات واجهزة استشعار بالغة الحساسية والدقة وعالية الكفاية التقانية وإلاّ لما أمكنها متابعة مسار طائرة التجسس الاميركية وتحديد المكان المناسب لإسقاطها.
ثانية الدلالات إمتلاك ايران صواريخ متنوعة ومتطورة وفي مقدورها اسقاط طائرات وصواريخ معادية من طرازات متطورة جداً لا تملكها إلاّ دول كبرى، كالولايات المتحدة مثلاً، وان من شأنها الحدّ من سطوتها وتحكّمها بالدول الاخرى الادنى تسليحاً والأضعف اقتصاداً والاقل قدرة.
ثالثة الدلالات تمتع القيادة الايرانية بإرادة قوية للتقرير والمواجهة والحسم كما الحرص على الندّية رغم التفاوت في القدرات العسكرية والإقتصادية مع العدو الحقيقي او المفترض.
رابعة الدلالات إدراك القيادة الإيرانية واقع موازين القوى الاقليمية والدولية واتقان فن لعب بعض الدول ضد بعضها الآخر والإستفادة تالياً من التضارب والتناقض فيما بينها على نحوٍ يمكّنها من تحقيق مكاسب سياسية وإقتصادية وأمنية وازنة.
خامسة الدلالات ان تراجع ترامب عن مهاجمة ايران شكّل هزيمة سياسية مدوّية للولايات المتحدة الامر الذي يعزز تخوّفات الصقور والمتطرفين في واشنطن وتل ابيب من تسارع تطوير قدرات ايران التكنولوجية والسيبرانية والصاروخية ويحملهم تالياً على التمسك بسياسة محاصرتها ومتابعة عملية ارهاقها بالعقوبات الإقتصادية وربما العمل جدّياً لتوليف مخطط سياسي وعسكري متكامل لإحتوائها وحتى شنّ حرب عليها اذا اقتضى الامر.
بإختصار ، اميركا سقطت في امتحان تعزيز الهيبة فيما نجحت ايران في امتحان حماية السيادة وصون الكرامة وممارسة الندّية في وجه كبرى دول العالم واقواها واكثرها شراسة.
... والصراع ما زال مستمراً ومتصاعداً .