نشرت بجريدة "البناء و"الخليج"
تاريج 9/5/2019
مفتاح الخروج من اللادولة والفساد :
كتلةُ شعبية لبناء دولة مدنية ديمقراطية
د. عصام نعمان
لبنان بلد العجائب والغرائب. اولى عجائبه انه بلا دولة مذّ أرسى المستعمرون الفرنسيون قواعد كيانه العام 1920. وهو كيان بثماني عشر طائفة وملّة . كل منها تشكّل دويلة قائمة بذاتها ومعترف بها من سائر أقرانها كما من دول عدّة في العالم .
ثانيةُ عجائبه ان دستوره المعتمد نظرياً منذ العام 1926، ظلّ في معظم مواده الاساسية غير مطبّق او هو مطبّق جزئياً ، احياناً ، لأغراض مشبوهة. دستور لبنان الفعلي هو توافق متزعمي طوائفه وجماعاته ، ظرفياً، على ما يعتقدون انه يفي بمصالحهم او بمعظمها ، حتى اذا تغيّرت موازين القوى الاقليمية والدولية وانعكست على موازين القوى المحلية ، نشأت الحاجة والضغوط مجدداً الى تسوية مغايرة لتفادي تأزّم ماثل.
ثالثةُ عجائبه شيوع عصبيةٍ جامعة لدى كلٍّ من طوائفه تربط بين افرادها وترسّخ ولاء لها اعلى وأفعل من الولاء المفترض للكيان السياسي الاكبر الذي يحضنها.
رابعةُ عجائبه ان شبكة سياسية متحكّمة ادارت الكيان ، اي النظام الطوائفي ، منذ الإستقلال العام 1943 حتى الوقت الحاضر. هذه الشبكة كانت ، وما زالت ، مؤلّفة من متزعمين في طوائف ، ورجال اعمال واموال يتعاطون السياسة، ومتنفذين في الجيش واجهزة الامن . وهي تعيد انتاج نفسها من خلال قوانين للإنتخابات النيابية تؤمّن إنجاح مرشحيها وأتباعها. كل ذلك ادى الى إضعاف ادارات السلطة ، وشيوع الفساد ، وإنعدام المراقبة والمحاسبة ، وغياب ثقافة الثواب والعقاب.
خامسةُ عجائبه صعوبة نشؤ توافق شعبي وطني عابر للطوائف قادر على تجاوز الشبكة المتحكمة وسياساتها وترتيبات سيطرتها على مقاليد السلطات والمؤسسات وموارد البلاد . هذا التوافق المنشود لم يتحقق إلاّ ثلاث مرات : الاولى عندما اعتقلت السلطات الإستعمارية الفرنسية أركان الحكومة العام 1943 لقيامهم بشطب صلاحيات المفوض السامي الفرنسي من احكام الدستور. المرة الثانية عندما اضطر رئيس الجمهورية بشارة الخوري الى تقديم استقالته العام 1952 بفعل السخط الشعبي المتعاظم والاضراب العام إحتجاجاً على تعديله الدستور لتجديد ولايته العام 1949، وسؤ الادارة واستشراء الفساد . المرة الثالثة عندما قام رئيس الجمهورية كميل شمعون بإجراء انتخابات مزوّرة العام 1957 بقصد تعديل الدستور لتجديد ولايته الامر الذي أدى الى تلاقي انتفاضة شعبية عارمة مع مدٍّ شعبي متعاطف مع الرئيس جمال عبد الناصر ووحدة مصر وسوريا العام 1958، وتالياً الى احباط خطة شمعون النافرة.
غير ان هذه الإنتفاضات الشعبية الثلاث العابرة للطوائف لم تتمكّن من إنهاء هيمنة الشبكة السياسية المتحكمة التي استطاعت إستيعابها واحتواءها بإجتراح توافقات وتسويات اعادت انتاج سيطرتها على مقاليد السلطات والمؤسسات وموارد البلاد . القاعدةُ الاساس في هذه التسويات ، التي ما انفكّت تحكم لبنان على مرّ تاريخه السياسي المعاصر ، هي المحصاصة بما هي معادلات تسووية لتوزّع السلطة والنفوذ والمصالح والمغانم بين اركان الشبكة السياسية المتحكّمة ووكلائهم .
اليوم يجد لبنان نفسه ، مرةً اخرى ، في غمرة فصلٍ جديد من ازمته المزمنة ، ازمة نظامه الطوائفي المركانتيلي المنخور بالفساد والمحاصصة والتسيّب، والمحاصر بمخاطر وتحديات مصيرية (اسرائيل) ومالية (الدين العام المتعاظم) واقتصادية (غلاء المعيشة وتقليص الضمانات الاجتماعية واعباء النازحين واللاجئين) وتنموية (تعطيل المشروعات والمجهودات الإنمائية).
إذّ يعمّ السخط وتتوالى الإضرابات وتتعمّق الإنقسامات بين مختلف القوى السياسية الممثلة في الشبكة المتحكّمة وخارجها، وتتزايد المخاطر والتحديات الخارجية والمصيرية ، تتعاظم الحاجة الى تسوية مغايرة ، تسوية تاريخية جذرية تضع حدّاً لإستمرار ازمة لبنان المزمنة التي تعيد الشبكات السياسية المتحكمة إنتاجها مع كل تسوية ظرفية قاصرة ومقصرة في معالجة اسبابها الدفينة والظاهرة في آن. فما العمل ؟
لعل التحدّي الرئيس ، حالياً ، الذي يواجه اللبنانيين ، مسؤولين ومواطنين ، هو توليد فريق قيادي وطني تقدمي انمائي ، عابر للطوائف ، ذو رؤية وبرنامج، طويل النَفَس ، ملتزم وناهض للعمل والنضال من اجل تحويل تيار السخط الشعبي المتعاظم الى كتلة شعبية ذات اهداف وطنية وسياسية واقتصادية واجتماعية تنتظمها رؤية متكاملةُ تشكّل مضموناً وحافزاً لتوافق شعبي وطني عابر للطوائف ولمختلف الجماعات الفئوية ، ومنتج لفريقٍ وطني تقدمي مؤهل للقيادة بصبر وأناة وثبات وبنضالٍ موصول لمحاصرة الشبكة المتحكمة ووكلائها ، وتعطيل اعتمادها على تحالفات خارجية ، والضغط عليها بكل الوسائل المشروعة لحملها على الرضوخ لمشروع الدولة المدنية الديمقراطية والإصلاحات الجوهرية المتوجبة ، على ان تقوم الدولة المنشودة رسمياً بإستفتاءٍ شعبي عام ما يجعلها قادرة على ترسيخ قيم ومؤسسات الحرية وسيادة القانون والعدالة والتنمية والإبداع الحضاري .
تكون الكتلة الشعبية وتنهض او يبقى اللبنانيون اسرى الشبكة السياسية المتحكّمة ونظامها الطوائفي الفاسد الى ابد الآبدين.