نشرت بجريدة "الخليج"
تاريخ 21/4/2019
انتهاك السيادة ممنوع...
فهل انتهاك الخصوصية مشروع ؟
د. عصام نعمان
عندما أوقف رجال شرطة بريطانيون قبل ايام مؤسس موقع "ويكيليكس" جوليان اسانج ، اللاجىء الى سفارة الاكوادور في لندن منذ العام 2012 ، أمكن سماعه وهو يهتف مراراً بعبارة "على المملكة المتحدة ان تقاوم" ؟
مَن أَراد اسانج من بريطانيا ان تقاوم ؟
أرادها ان تقاوم الولايات المتحدة التي تقدّمت بطلب استرداده بعدما إتهمته بـِ "القرصنة المعلوماتية". وكيف لبريطانيا ان تقاوم ؟ أليست هي مَن اصدرت سلطاتها القضائية مذكرة توقيف بحق اسانج تعود الى شهر حزيران / يونيو 2012 لعدم مثوله امام المحكمة بتهمة تحرش بإمرأة اسوجية ، يُعاقب عليها القانون بالسجن مدة سنة ؟
محامية اسانج في لندن جنيفر روبنسون لم يُحبطها توقيف موكّلها الاسترالي الأصل اذ صرحت على التوّ بأنه "سيطعن ويقاوم" طلب الولايات المتحدة استرداده ، معتبرةً ان توقيفه " يشكّل سابقة خطرة ومؤذية للمنظومات الإعلامية وللصحافيين في العالم ".
توقيف اسانج والطلب الاميركي بإسترداده دفعا انصار الحريات وحقوق الإنسان في الغرب ، وحتى في الولايات المتحدة نفسها ، الى الإعتراض وشنّ حملة تقريع مضادة. محامي اسانج في مدريد بالتاسار غارتون قال إن موكله ضحية "إضطهاد سياسي" من الولايات المتحدة. الصحافي في "ويكيليكس" كريستين هرافتسون تخوّف من ان توجّه الولايات المتحدة تهماً اضافية الى اسانج مما يعني انه قد يواجه عقوداً من السجن فيها.
في الولايات المتحدة ، هبّ انصار الحريات وحقوق الانسان للدفاع عن اسانج متهمين ادارة ترامب بأنها تلاحقه كصحافي الامر الذي يمسّ بحرية النشر. لكن وزارة العدل الاميركية سارعت الى الردّ بأنه متهم بالتآمر لإرتكاب "قرصنة معلومايتة" تمسّ الامن القومي ، وهي جريمة تصل عقوبتها الى السجن خمس سنوات.
تبدو قضية اسانج (كما كشوفات "ويكيليكس") حتى الان انها قضية دولة حريصة على حماية امنها القومي وسيادتها. لكن نظرةً متأنّية الى المسألة تشي بحقيقة اخرى هي انها ، كسواها من العمليات الإستخبارية والجاسوسية، تتعلق بصراع الإنسان مع السلطة وصراع المواطن مع اجهزة الإستخبارات . فالدولة الاقوى من المواطن عموماً تشرّع التجسس عليه بدعوى حماية الامن القومي ، وقد لا تتورع ، احياناً ، عن انتهاك خصوصيته بدعوى حماية امنه الشخصي دونما طلبٍ منه !
الدولة لا تتسامح في انتهاك سيادتها وامنها ، سواء كان الفاعل عدواً خارجياً او خصماً داخلياً ، لكنها لا تتردد في انتهاك خصوصية المواطن لأسباب شتى من دون علمه . هكذا يصبح إنتهاك السيادة والامن ممنوعاً وانتهاك الخصوصية مشروعاً.
اكثر من ذلك ، توسعت عمليات التجسس والإستقصاء التي تستهدف الحكومات والجماعات والأفراد وأضحى لها في بعض الدول مؤسسات وميرانيات ضخمة. بل ان "حروباً استخبارية ضارية متعددة الاغراض والوسائل اندلعت سراً وعلناً بين بعض الدول الكبرى والمتوسطة، رافقها صعود لافت لأجهزة الإستخبارات وتضخمها وتزايد ملحوظ في انتهاكات حقوق الانسان ، ولاسيما لخصوصيته التي كرستها المواثيق الدولية ، ولاسيما الاعلان العالمي لحقوق الانسان للعام 1948.
في هذا المنظور ، لا بدّ من الإشارة الى ان الثورة والتقدم الحاصلين في تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي سهّلا على اجهزة التجسس والإستقصاء تنفيذ عملياتها ، سواء ما يتعلق منها بالأمن القومي او برصد الأشخاص واختراق خصوصياتهم .
كيف الخروج من هذه المشكلة المؤذية ؟
ارى ان الدول ، كبيرها وصغيرها ، ستصل يوماً ما بعد طول صراعات وانتهاكات مُكلفة وغير مجدية الى التسليم بضرورة معالجة ظاهرة التمادي في انتهاك خصوصية الانسان وذلك ابتغاء حماية كرامة الكائنات البشرية وتوطيد الوئام بين الافراد والجماعات . ولعلها، في هذه الحال ، تستلهم في المعالجة والتصحيح المبادىء والأسس الآتية:
اولاً ، تعزيز اعلان حقوق الإنسان للعام 1948 والمواثيق المتفرعة منه بفصلٍ خاص بالضوابط والكوابح والعقوبات الواجب توقيعها بحق مخالفي احكامه .
ثانياً ، تعديل نظام المحكمة الجنائية الدولية كي يشمل اختصاصها جريمة انتهاك خصوصية الانسان والمواطن من قبل مسؤولي أجهزة الإستخبارات والإستقصاء والتجسس في الدول الأعضاء في الامم المتحدة.
ثالثاً ، اقامة منظمة أممية لحقوق الانسان تمثل الشعوب على ان تصبح توصياتها نافذة بقرارات صادرة عن الجمعية العامة لمنظمة الامم المتحدة وذلك بواسطة وكالاتها ومؤسساتها ذات الصلة.
هل تكون ملاحقة جوليان اسانج فاتحة مرحلة جديدة متقدّمة في تعزيز مواثيق حقوق الانسان وحمايتها ؟