نشرت بجريدة :القدس العربي"و"البناء"
تاريخ 18-2-2019
قمة سوتشي :
تفاهمات لمرحلة ما بعد الإنسحاب الاميركي من سوريا
د. عصام نعمان
كان أنصار المقاومة في عالم العرب ينتظرون من قمة سوتشي اكثر مما صدر عنها . لكن اهل القرار في دمشق لم ينتظروا منها مخرجات حاسمة وإن كانوا متأكدين من ان حليفيهما فلاديمير بوتن وحسن روحاني سيطالبان زميلهما رجب طيب اردوغان بإتخاذ مواقف حاسمة من مسألة سيادة سوريا على كامل ترابها الوطني .
ما حصل في القمة ان تفاهماتٍ حاسمة توصّل اليها الرؤساء الثلاثة، بعضها بقي ضمنياً فيما بعضها الآخر ، الأدنى حسماً ، جرى اعلانه . غير أن التفاهمات كلها تمّ بحثها تحت عنوان رئيس : تنظيم ملء الفراغ الاميركي في سوريا . فالإنسحاب الاميركي حاصل بالتأكيد. قد يُستأخَر ، لكنه سيتمّ عاجلاً او آجلاً.
قبل انعقاد القمة الثلاثية وفي اثنائها جرى تظهير مواقف مهمة ، كان بعضها حاسماً. فقد اكد الرئيس التركي ، لأول مرة ، وجوب الإنسحاب من منبج و"تسليمها الى سكانها الاصليين" ما يؤدي منطقياً ولاحقاً الى تسليمها للجيش السوري . مع العلم ان الشمال السوري يضم اجزاء محتلة من محافظات حلب والرقة والحسكة ، وفي وسطه تقع منبج ، ما يؤشر الى ان الإنسحاب منها يستتبع انسحاب جميع القوات الاجنبية ، بما فيها التركية.
من جهته اعلن الرئيس الروسي ان نقاط التوافق السابقة لا تمنع انفراد كلٍّ من الأطراف المشاركة في مؤتمر "استانا" الأخير من اتخاذ مقاربات تتمايز عن سائر شركائه. فقد اكد على اهمية "الإتفاق على كيفية إنهاء التصعيد بشكلٍ كامل في ادلب"، مشيراً في الوقت نفسه الى ان "هذا لا يعني اننا يجب ان نتحمّل وجود جماعات ارهابية، بل وجوب النظر في خطوات عملية محددة يمكن ان تتخذها روسيا وتركيا وايران لتدمير الإرهاب هناك بالكامل". هذا الموقف أكده اردوغان لاحقاً .
الرئيس الإيراني لم يكن اقل وضوحاً في هذا المجال . فقد شدّد على "ضرورة استمرار المعركة ضد جميع الجماعات الإرهابية وإنهاء وجود القوات الأجنبية ، بما في ذلك الاميركيين الموجودين من دون اذن من الحكومة السورية ، في اقرب وقت ممكن". لم يكتفِ روحاني بالتصويب على الجماعات الإرهابية والقوات الاجنبية بل كشف ايضاً ان "المعلومات الإستخبارية المتوافرة لدى ايران تشير الى ان الولايات المتحدة ستواصل التدخل في سوريا (...) وان على المجتمع الدولي مواجهة اعمال النظام الصهيوني العدوانية على الاراضي السورية التي تهدد السلام والامن الدوليين".
من جهته خصص الرئيس التركي جزءاً من حديثه لملف اللاجئين السوريين في بلاده وضرورة العمل على استقرارٍ يتيح عودتهم الى بلادهم، مشككاً ، كالرئيسين الايراني والروسي ، بالمواعيد المسرّبة عن انسحاب القوات الاميركية .
من الواضح ان الرؤساء الثلاثة بحثوا القضايا العالقة في ضوء هاجسٍ رئيس هو الإنسحاب الاميركي المرتقب من سوريا وكيفية ملء الفراغ الناجم عنه ، مع ضرورة تفهّم "مخاوف تركيا" من تداعياته وضرورة احترام سيادة سوريا على كامل ترابها الوطني.
من هذا العرض يمكن استخلاص النتائج الآتية:
-
الإتفاق على "تنسيق الأنشطة لضمان الامن والاستقرار" في شمال شرق سوريا ، مع احترام سيادتها "بما يتضمن الإتفاقات القائمة" ما يعني إجازة جهود روسيا الهادفة الى احياء "اتفاق اضنه" للعام 1998 بين سوريا وتركيا واعتماده مدخلاً لعودة العلاقات بين البلدين والتنسيق بينهما.
-
الإتفاق على ضرورة "التصدي بفعالية لمحاولات هيئة تحرير الشام الإرهابية (جبهة "النصرة" سابقاً) فرض سيطرتها على منطقة "خفض التصعيد، واتخاذ خطوات ملموسة للحدّ من الانتهاكات في المنطقة منزوعة السلاح بالتنفيذ الكامل للإتفاقات المتعلّقة بإدلب بما فيها مذكرة التفاهم الموقعة في شهر ايلول/سبتمبر الماضي".
-
الإفساح في المجال امام تركيا لتنفيذ ما اتفق عليه في اجتماع سوتشي الاخير (ما قبل قمة 14-13 شباط/فبراير الجاري) ولا سيما لجهة استهداف الجماعات الإرهابية وفق ما نصّت عليه مذكرة التفاهم الروسية – التركية.
-
الاتفاق على ضرورة "انخراط المجتمع الدولي ، ولاسيما وكالات الامم المتحدة ، في استعادة اصول البنية التحتية بما في ذلك مرافق امدادات المياه والطاقة والمدارس والمستشفيات".
-
التفاهم على ضرورة إجراء ما يلزم لإطلاق عملية إعادة الإعمار في سوريا ، ومواجهة الطروحات الاميركية والاوروبية التي تشترط حلاً سياسياً فاعلاً للمشاركة في تغطية تكلفة العملية .
-
تهيئة الظروف "للعودة الآمنة والطوعية للاجئين والمهجرين السوريين ، والتعامل بإيجابية مع جميع الأطراف المعنية بما في ذلك مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين."
هذه الخُلاصات التي تمّ التوافق عليها انطوت ، بالضرورة ، على إجراءات مهمة آثر الرؤساء الثلاثة إبقاء بعضها مكتوماً لإجراء مزيد من المحادثات في شأنها ، خاصةً بين تركيا وسوريا.
غير ان ثمة إنجازاً بالغ الأهمية توصّل اليه الرؤساء الثلاثة هو التوافق على ضرورة استكمال جهود المصالحة بين تركيا وسوريا التي كانت باشرتها روسيا وانضمت اليها ايران بشكل قوي ولافت عشيةَ قمة سوتشي . فالمصالحة وعودة الحوار بين الدولتين الجارتين من شأنهما تسهيل التوصل الى حلول وتسويات حول القضايا العالقة بينهما ، ولا سيما قضية الاكراد السوريين الذين تصفهم انقرة بأنهم باتوا اسرى تحالفهم مع حزب العمال الكردستاني التركي ، في حين تحاول دمشق جادةً فك ارتباطهم بالحزب المذكور كما بالولايات المتحدة التي قامت بتسليح بعض فصائلهم المسلحة بغية استخدامها لتفكيك سوريا في سياق مخطط التقسيم الصهيواميركي .
بإختصار ، تمكّن الرؤساء الثلاثة من تدوير الكثير من زوايا الاختلاف فيما بينهم ، واعطوا انقرة فرصةً تدوم الى موعد انعقاد "مؤتمر استانا" في شهر نيسان/ابريل القادم لتنفيذ إلتزاماتها المقررة لمحافظة ادلب، وربما اعطوا ايضاً ، وضمناً ، اشارةً إيجابية الى دمشق التي تبدو ، بحسب تصريح رئيس حكومتها عماد خميس ، "مصممة على تحرير محافظة ادلب قريباً جداً ".
الى ذلك ، حقق الرؤساء الثلاثة انجازاً آخر لا يقلّ اهمية عمّا سبق بيانه هو انهم ، بالمقارنة مع ترامب ونتنياهو وحلفائهما العرب ، نجحوا في مؤتمرسوتشي فيمــا فشل خصومهــم في مؤتمر وارسو فشــلاً ذريعاً ومثيراً للسخرية ، كما تبدّى ذلــك في تعليقات وسائـل الاعلام الاوروبيــة و... العبرية؟