نشرت بجريدة "القدس العربي، و"البناء"
تاريخ 4/2/2019
اركان الشبكة المتحكمة ربحوا فيما اللبنانيون خسروا...
د. عصام نعمان
اخيراً ، وبعد تسعة اشهر على إجراء الإنتخابات النيابية ، تمكّن اركان الشبكة المتحكمة من توليف "حكومة وحدة وطنية" . بإعلانها بدا اركانها رابحين ، وبنتيجتها بقي اللبنانيون خاسرين .
حكومة وحدة وطنية ؟ الأصح انها وحدة ظرفية بين اركان الشبكة المتحكمة إياها. ثم ، هل هي حكومة حقاً أم منظومة سلطةٍ عاجزة عن الحكم بسبب تناقضات اطرافها وترهّل ما تبقّى من الادارات والمرافق العامة؟ لبنان ، في الواقع ، بلا دولة منذ استقلاله النظري سنة 1943. ما لديه نظام هو بمثابة آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم والنفوذ ، تديره شبكة متحكمة من متزعمي طوائف ورجال اعمال واموال ومتنفذين في أجهزة الامن.
لماذا تأخر تأليف منظومة السلطة ؟
لأن الإنتخابات الاخيرة افرزت موازين قوى مغايرة واستدعت إعادة تركيب معادلة المحاصصة في ضوئها . ما كان الامر ليتطلّب شهوراً تسعة لإجتراح تسوية مقبولة من الاطراف المتصارعة لو كان في البلاد معارضة فاعلة . صحيح ان غالبية الشعب مسحوقة وساخطة وناقمة على الشبكة المتحكمة ، لكن المعارضة المتشوّفة الى القيادة متشرذمة وضعيفة التأثير والفعل .
قيل إن سبب التأخير في توليف منظومة السلطة يعود الى ضغوط وتدخلات مصدرها أطراف اقليمية ودولية متصارعة. هذا تبرير مبالغ فيه. فالقوى الاقليمية المحافظة المؤيدة للأطراف السياسية المحلية المتحالفة معها تراجَع نفوذها كثيراً بعدما خسرت حربها في سوريا ، وهي على وشك الإقرار بخسارتها في اليمن ، ولا تطمح ، حاليّاً ، الى اكثر مما بقي لها من نفوذ . الى ذلك ، فقدت الولايات المتحدة الكثير من سطوتها وتأثيرها بعد هزيمة التنظيمات الإرهابية المتحالفة معها في المنطقة ، فاعلنت اعتزامها سحب قواتها العاملة في سوريا وفي افغانستان ايضاُ الامر الذي أضعف نفوذها كثيراً بدليل الضغوط التي مارستها على حلفائها في لبنان لإستبعاد حزب الله عن المشاركة في الحكم ، لكن حلفاءها هؤلاء عجزوا عن تلبية الطلب.
الحقيقة ان السبب الرئيس لإحتدام الازمة الوزارية وتطاولها هو ترهّل النظام واهله وتفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية. ذلك دفع المراقبين والمحللّين الموضوعيين ، كما القياديين الوطنيين المستنيرين، الى الإستنتاج بل الجزم بأن اركان الشبكة المتحكمة قد وصلوا الى طريق مسدود . مؤدى ذلك ان حال منظومة السلطة الجديدة ومصيرها لن يختلفا كثيراً عن حال سابقتها ، وانه محكوم عليها بالفشل.
قلةٌ من المراقبين الموضوعيين استبعدت لها هذا المصير بدعوى أن وجود حزب الله داخل منظومة السلطة يتيح للأخيرة البقاء طويلاً كونه خارج الشبكة المتحكمة اصلاً ومعارضاً لها ضمناً ومؤيداً للمطالب الاصلاحية والإجتماعية ومحاربة الفساد التي تنادي بها قوى المعارضة. هذا ممكن ، لكن الأرجح ان حزب الله لن يكبح او يعارض القوى الوطنية والتقدمية في حملتها على اهل النظام وفسادهم بل سيدعمها ، ولا سيما في كل ما يتعلّق بالمطالب الحياتية من غذاء ودواء وصحة وماء وكهرباء، وضمانات معيشية واجتماعية ومحاربة منهجية للفساد ومقاومة للقوى الاقليمية والدولية التي لا تنفك تحاول زجّ لبنان في كل ما من شأنه مناوءة ايران ومعاضدة "اسرائيل" ومناصرة الغرب الأطلسي . ذلك ان الدافع الاساس لإشتراك حزب الله في ما يسمى "حكومة الوحدة الوطنية" هو المشاركة في القرار السياسي لضمان عدم تحويره او اساءة تنفيذه لإيذاء المقاومة ومصالح لبنان العليا. وليس ادل على صدق توجههه في هذا السبيل من نجاحه في إحباط ضغوط اميركا المتواصلة للحؤول دون مشاركته في منظومة السلطة وفي تخصيصه بوزارة الصحة ذات الخدمات الوافرة للناس .
من المفترض ان تكون قوى المعارضة الوطنية والتقدمية محيطة بأبعاد المشهد المحلي وتعقيداته وانعكاس الصراعات الإقليمية عليه ، ومدركة تالياً ان فئات الشعب اللبناني بمعظمها رحبّت بإنهاء الفراغ الحكومي بمنظومةٍ جديدةٍ للسلطة آملةً ان تبادر الى إصلاح ما يمكن إصلاحه والوفاء بالحد الأدنى من المطالب الحياتية الاساسية. لذا لن تلجأ المعارضة الوطنية الى مواجهة "الحكومة" الوليدة بتدابير شعبية قاسية ، متيحةً لها بذلك فرصةً لمواجهة التحديات الماثلة وإستجابة مطالب الناس الاقتصادية والاجتماعية الاساسية . لكن المعارضة لن تتوانى عن ممارسة النقد والتصويب وعن متابعة عملية الحشد والتعبئة والتنسيق والتنظيم ، حتى اذا اتضح لها ان منظومة السلطة الجديدة عاجزة اومقصّرة في القيام بواجباتها ، بادرت دونما إبطاء الى تصعيد وتيرة تصدّيها المباشر لها وصولاً الى ممارسة بعض وجوه العصيان المدني.
هكذا تستبين الحاجة الى مواجهة كل هذه التحديات بجبهة عريضة من القوى الوطنية والتقدمية هدفها بناء الدولة المدنية الديمقراطية على اسس المواطنة والحرية وحكم القانون والعدالة والتنمية ، وذلك بالنضال الوطني والاجتماعي الهادف الى تغيير البيئة السياسية بتغيير اساليب العمل السياسي التقليدية وآلياته.
في سياق إستنهاض قوى المعارضة الوطنية والتقدمية، يقتضي الحرص على التدابير العملانية الآتية :
- إقامة هيئة وطنية متخصصة في شتى المجالات لمراقبة اداء منظومة السلطة ومؤسساتها وفضح ارتكاباتها ، ووضع المناهج والسياسات والإجراءات الصحيحة البديلة والسعي الى إعتمادها.
- وضع خطة إعلامية متكاملة للإفادة من وسائل التواصل الاجتماعي بغية تكوين رأي عام مناهض للنظام السياسي الفاسد المترهل وسياساته وادواته.
في ضوء مردود التدابير العملية سالفة الذكر ، يجري وضع برنامج سياسي مرحلي لجبهةٍ وطنيةٍ هدفها إعادة تأسيس لبنان دولةً ووطناً ، مع التركيز على الاولويات الاكثر إلحاحاً :
أولاً: إعادة بناء الدولة ومؤسساتها وتشريع قوانينها بالحرص على تطبيق احكام الدستور غير المطبقة عملياً ولاسيما المادة 7 (مساواة اللبنانيين امام القانون) والمادة 20 (استقلال السلطة القضائية) والمادة 22 (إنتخاب مجلس نواب وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف ، على ان يُصار الى اعتماد قانون جديد للإنتخابات على اساس النسبية في دائرة وطنية واحدة واعتباره اولوية اولى) والمادة 27 (النائب يمثل الأمة جمعاء) والمادة 95 (انشاء الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية ).
ثانياً: محاربة الفساد في الدولة والحياة العامة ، ومواجهة الضائقة المعيشية بقوانين ومشاريع لإزالة البطالة والفقر والمرض والنفايات، وحماية البيئة وتعميم الضمانات الاجتماعية ولاسيما ضمان الشيخوخة.
ثالثاً: التوافق على استراتيجية متكاملة للدفاع الوطني وتكريس دور المقاومة فيها.
رابعاً : معالجة مسألة النازحين السوريين بالتعاون الوثيق مع سوريا ومؤسسات الامم المتحدة ذات الصلة.
خامساً : التعاون الوثيق مع القوى الشعبية المناهضة للهيمنة الاميركية والكيان الصهيوني والإرهاب .
الخلاصة : إن البقاء تحت وطأة النظام الطائفي المركانتيلي الفاسد وفي حمأة الحروب الأهلية المتناسلة موتٌ بطيء ومحتم ، فيما الإنطلاق الى التغيّر والتغيير الديمقراطي النهضوي إرتقاءٌ الى حياة حضارية جديدة ومبدعة ، وقد آن الاوان.