نشرت بجريدة الخليج
تاريخ 19/1/2019
اي "اتفاق تاريخي" هذا بين اردوغان وترامب ؟
د. عصام نعمان
اذا كان دونالد ترامب معروفاً بنزقه ومزاجيته وعدم ثباته على رأي او موقف ، فهل ان رجب طيب اردوغان من السذاجة بحيث يثق فعلاً ، كما قال ، بأن ترامب توصّل معه الى "تفاهم تاريخي" بشأن إقامة "منطقة آمنة "على طول الحدود التركية-السورية بعمق 30 كيلومترا لحماية الامن القومي التركي ؟
ايّ اتفاق تاريخي هذا الذي توصّل اليه الرئيسان التركي والاميركي في محادثةٍ هاتفيةٍ خاطفة تمّت بعدما هدّد ترامب اردوغان بتدمير الإقتصاد التركي اذا ما هاجمت تركيا "قوات سوريا الديمقراطية" التي تحمي الاكراد السوريين بالتحالف مع الولايات المتحدة ؟
الولايات المتحدة لها قوات في ما يقارب ثلث مساحة سوريا وتستطيع تالياً ان تمنع تركيا من مهاجمة الاكراد السوريين في مناطقهم ، فلماذا تهدد بتدمير الإقتصاد التركي طالما بمقدورها الضغط على اردوغان بقواتها المنشورة في شمال سوريا الشرقي ؟!
اذا كانت اميركا صادقة فعلاً في حماية الاكراد السوريين ، فلماذا يعلن ترامب انها ستنسحب من مواقعها في شمال سوريا حيث تتواجد الأكثرية الساحقة من الاكراد السوريين ؟
الغريب ان اميركا اعلنت انها باشرت في سحب قواتها في حين يؤكد احد قادة "الحشد الشعبي" العراقي ان لا صحة لقيامها بذلك في وقتٍ تقوم بنشر قوات اضافية على مقربة من المواقع العراقية المحاذية للحدود السورية .
لعل التفسير الأرجح لملابسات هذا "التفاهم التاريخي" المفاجيء والغامض ان اردوغان ارتاع لإنعكاسات تغريدة ترامب حول "تدمير الإقتصاد التركي" على سعر صرف الليرة التركية ما ادى الى تراجعها بنسبة 1,6 في المئة ، فسارع الى اطلاق تصريحه حول "التفاهم التاريخي" للحدّ من تدهورها.
ردود الفعل السورية والروسية على تصريح اردوغان كانت سريعة ومستهجِنة. وزارة الخارجية السورية أدانتها واصفةً نظام اردوغان بأنه "لا يتعامل إلاّ بلغة الإحتلال" ، وان سوريا ترفض اي ترتيبات من شأنها المساس بوحدتها وتعتبرها عدواناً. مجلس الامن القومي الروسي اكّد انه يتوجب على الولايات المتحدة اعلان خطة لإخراج قواتها من سوريا.
لئن تسرّع اردوغان في اعلان "التفاهم التاريخي" الغامض إلاّ انه يدرك صعوبة تنفيذ "المنطقة الآمنة" التي تردد انه ينصّ عليها . ذلك ان عوائق شتى تحول دونـه ليس اقلها معارضـة طرفيّ مؤتمـر استانه ، روسيا وايران ، كما دول اخرى كالعــراق ومصر والامــارات العربيــة المتحدة. العــراق يتخــوّف من ان تؤدي إقامة "منطقة آمنة" على الحـدود التركية-السورية الى إقامة منطقة مماثلة على الحدود التركية-العراقية بدعوى مواجهة الانفصاليين في صفوف الاكراد العراقيين . مصر تتخوّف من مخطط اردوغان الرامي الى تكريس تركيا زعيمةً للعالم الإسلامي وترفض ذلك . الإمارات والسعودية تتخوفان ايضاً من الامر نفسه وتعارضانه . موسكو اكدت دائماً وجوب احترام وحدة سوريا وانسحاب جميع القوات المتواجدة فيها من دون ترخيص من حكومتها. وحدها "اسرائيل" تؤيد ، ضمناً ، إقامة منطقة آمنة بين تركيا وسوريا لأن من شأنها دعم مخططها الرامي الى تفكيك سوريا وتقسيمها.
قبل كل الاطراف سالفة الذكر ، فإن ثمة طرفين يعارضان "التفاهم التاريخي" الغامض ويتخوّفان من تداعياته . انهما الاكراد ، في معظمهم ، الذين يعانون ظلم تركيا وقمعها التاريخي لهم ، وايران وحلفاؤها الذين يساندون سوريا ويحرصون على احترام وحدتها وسيادتها . ولا شك في ان اردوغان يحسب حساباً لإيران ، نظراً لحجم المصالح والاتفاقيات الإقتصادية القائمة بين البلدين .
الى ذلك كله ، فإن ثمة معارضة وازنة لمطامع اردوغان ولاسيما لجهة تطلعه الى زعامة العالم الإسلامي السنّي بالتعاون مع جماعة الاخوان المسلمين في شتى الأقطار حيث يتواجدون ولهم فيها عناصر وخلايا نائمة ترى في تركيا دولةً مؤهلة لقيادة العالم السنّي ، ومستعدة لحمايتهم من ملاحقة الحكومات المعادية لنشاطهم .
في ضوء هذه الواقعات والتطورات لا يستبعد مراقبون عرب واجانب ان ينشأ ائتلاف عريض في عالم العرب ضد تطلعات اردوغان وطموحاته التوسعية ، وان يكون دعاة هذا الإئتلاف ومحركيه مصر والسعودية والامارات العربية المتحدة والاردن التي لا يناسبها البتة ان تسعى تركيا الى تزعّم عالم العرب والمسلمين . ربما لهذا السبب سارعت الإمارات العربية المتحدة والبحرين الى اعادة فتح سفارتيهما في دمشق . ذلك ان مساندة سوريا ضد المطامع التركية يُسهم في إعادة التضامن الى اطراف الصف العربي المشتت ، ويقطع الطريق على تدخل ايران لمساندة سوريا، وقد يؤدي ، ربما ، الى احتمال إبتعادها عن شقيقاتها العربيات.
هكذا يتضح ان التفاهم التاريخي لن يكون بالتأكيد تاريخياً .