جريدة "الخليج"
الامارات العربية ، تاريخ 29/3/2014
هل اللغة والجنسية كافيتان لتقرير المصير ؟
د. عصام نعمان
تستعد اقاليم عدة في اوروبا الشرقية لإعلان نفسها روسيةَ الهويةِ والارضِ لإغراء روسيا الإتحادية بضمها اليها بل ان ثمة اقاليم ليست روسية ، لا هويةً ولا أرضاً ، تطالب بذلك ايضاً لمجرد ان قسماً من سكانها يحمل الجنسية الروسية
اقليم شبه جزيرة القرم الذي كان جزءاً من اوكرانيا إنضم اخيراً الى روسيا باستفتاء شعبي نال فيه خيار الإنضمام اكثر من 90 في المئة من السكان غالبية السكان البالغ عددها 2,400,000 هي من الروس او الناطقين باللغة الروسية من الواضح ان الهوية القومية واللغة كانتا العاملين المقررين في تقرير نتيجة الإستفتاء لكن الإستفتاء نفسه ما كان ليتّم لولا عامل رئيس آخر هو إرادة شعب القرم بالإنضمام الى روسيا
اذا كانت اللغة ، غالباً ، المقوّم الرئيس للهوية القومية ، وهي بالتالي احد أهم مقوّمات تكوين ارادة الإنضمام الى روسيا لدى شعب القرم ، فهل الجنسية تشكّل بحد ذاتها اساساً لتقرير مصير شعب من الشعوب؟
يبدو انها كذلك بالنسبة لفريق من شعب غزة الفلسطيني ذلك ان ناشطين يمثلون نحو 50 الفٍ من السكان يحملون الجنسية الروسية في قطاع غزة ويعتقدون انها تشكّل بحد ذاتها مسوّغاً اخلاقياً وقانونياً وامنياً لطلب الإنضمام الى روسيا فقد توجّه هؤلاء الناشطون الى رئيس حكومة غزة اسماعيل هنية بنداء لتنظيم إستفتاء على الإنضمام الى روسيا حتى قبل ان تصدر عن موسكو اي اشارة تفيد القبول بمبدأ الإنضمام غير ان موقع "اسلام نيوز" الروسي نقل عن احدى الناشطات قولها إن "موسكو أعلنت عزمها الدفاع عن مواطنيها في كل مكان، ونحن هنا نتعرّض لأسوأ اشكال التنكيل والقتل من جانب "اسرائيل" ناشط آخر من اصحاب المبادرة قال إن "انضمام قطاع غزة الى روسيا سيوّفر لنا الحماية ويردع الإسرائيليين"
ما موقف اسماعيل هنية ؟
الارجح انه سيتجاهل النداء لجملة اسباب ليس اقلها ، بطبيعة الحال ، ان قطاع غزة ، ارضاً وسكاناً ، جزء لا يتجزأ من فلسطين التاريخية ، وان طالبي الإنضمام الى روسيا قلة قليلة بالمقارنة مع غالبية شعب القطاع التي لا تحوز جنسية روسيا وليس لديها اصلاً ارادة الإنضمام اليها
سيكون لسابقة انضمام القرم الى روسيا بالإستناد الى عاملي الهوية القومية واللغة تداعيات مؤثرة ليس في قطاع غزة فحسب بل في كل اقليم ايضاً تعيش فيه كتلة بشرية وازنة تحمل هوية قومية مغايرة لهوية غالبية سكان الدولة ولماذا نذهب بعيداً ؟ ألم يطالب بعض سكان اقاليم اوكرانيا الشرقية من ذوي الاصول الروسية وآخرون يتحدثون بالروسية كلغة ام بالإنضمام الى روسيا ؟ هاتان الفئتان من سكان اوكرانيا الشرقية لا يقل عددهم عن 20 في المئة من شعب اوكرانيا البالغ تعداده الإجمالي 45 مليوناً ، كما يشكّلان دونما شك ورقة وازنة بيد موسكو في الصراع المحتدم بينها وبين امريكا واوروبا حول مستقبل اوكرانيا والخريطة الجيوسياسية لمنطقتي اوروبا الشرقية والقفقاز
قد يهون الامر لو اقتصر على توظيف عامل اللغة في صراع الإرادات والمصالح المحتدم بين الدول الكبرى والمتحوّل بوتيرة متسارعة الى حرب باردة متصاعدة واصطفاف دولي جديد ذلك ان دولة او اكثر قد تلجأ في قابل الأيام الى إثارة عامل الارض وملكيتها التاريخية كحجة لإعادتها الى الوطن الام او لغرض زعزعة استقرار دولة منافسة
استوقفتني ، في هذا السياق ، صورة مركّبة تجمع ، وجهاً لوجه ، باراك اوباما وفلاديمير بوتن ، يقول فيها الاول للثاني : " ماذا بعد ضم القرم ؟ " فيجيبه الثاني : " لا تنسَ ان الاسكا كانت ارضاً روسيةً "
الاسكا الان احدى ولايات امريكا الخمسين ، تبلغ مساحتها 1,717,854 كيلومتراً مربعاً ، وكانت الولايات المتحدة قد "اشترتها" من روسيا القيصرية العام 1867 هل يأتي يوم تطالب فيه روسيا بإعادة الاسكا الى الوطن الام بحجة ان القيصر الروسي المستبد كان "باعها" بالرغم من ارادة شعبها ؟ الدليل ؟ ان ايِّ استفتاء لم يجرِ في حينه لمعرفة ارادة شعبها الحقيقية ما يجعل بيعها تصرفاً غير قانوني وغبر مقبول وفقاً للمبادىء العامة الأخلاقية والشرعية وميثاق الامم المتحدة والميثاق العالمي لحقوق الإنسان
الامر نفسه ينطبق على فرنسا التي "باعت " لويزيانا من الولايات المتحدة في القرن التاسع عشر من دون ان يكون لشعب الولاية رأي في ذلك فهل تطالب فرنسا يوماً بإعادة لويزيانا الى الوطن الام بدعوى ان لا استفتاء جرى فيها للتحقق من ارادة شعبها ؟
الولايات المتحدة ستنكر حتماً على روسيا وفرنسا حقهما بولايتي الاسكا ولويزيانا وإن كانت واثقة من ان سكانها سيصوّتون بالتأكيد الى جانب البقاء في الاتحاد الامريكي فيما لو جرى استفتاء لهذه الغاية في هذه الحال ، فإن روسيا سترد عليها غالباً بأن شعب شبه جزيرة القرم قد صوّت خلال الإستفتاء بأكثرية ساحقة الى جانب الإنضمام الى روسيا ، فلماذا تنكر امريكا على غيرها ما تبيحه لنفسها ؟
اياً ما كان الامر ، فإن ارادة الشعوب تبقى العامل الحاسم في تقرير المصير، حاضراً ومستقبلاً