نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 17/12/2018
صفعة الكونغرس أضعفت ترامب
فهل يستغلها اردوغان لتحدي اميركا شرق الفرات ؟
د. عصام نعمان
شكّل قرارٌ إتخذه مجلس الشيوخ الاميركي بالإجماع بتحميل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان المسؤولية عن مقتل جمال خاشقجي صفعةً مدوّية لدونالد ترامب. انعكاسات شتى ، داخلية وخارجية ، ستترتب على هذا الحدث الجلل ليس اقلّها ،اميركياً ، تصدّع الحزب الجمهوري وإبتعاد المزيد من شيوخه ونوابه في الكونغرس عن الرئيس العجيب الغريب المحسوب عليهم ، وتعزيز فعالية الحزب الديمقراطي المعارض الذي يمتلك الغالبية في مجلس النواب اعتباراً من اول العام القادم 2019.
خارجياً ، أصيبت هيبة ادارة ترامب بمزيد من الخيبة والتراجع ما يشجع خصوم الولايات المتحدة على مناهضتها سياسياً وعسكرياُ في مناطق ومسارح عدّة ، ولاسيما في دول غرب آسيا. الرئيس التركي رجب طيب اردوغان أعلن عن عملية عسكرية جديدة شرق الفرات ضد "وحدات حماية الشعب" الكردية التي تدعمها واشنطن في حين تصنفها انقرة تنظيماً ارهابياً وتعتبرها امتداداً لـِ "حزب العمال الكردستاني" الذي يقاتل للحصول على حكم ذاتي للاكراد في جنوب شرق تركيا.
لطالما كانت انقرة وواشنطن على خلاف حول سوريا ، اذ ساعدت الولايات المتحدة ، بالتسليح والتدريب ، "وحدات حماية الشعب" الكردية في القتال ضد تنظيم "داعش" الإرهابي الامر الذي فسّرته انقرة بأنه دعم غير مباشر للاكراد السوريين كما للأكراد الاتراك لأقامة كيانات حكم ذاتي في كِلا البلدين تمهيداً لإقامة دولةٍ كرديةٍ موحدة . وكانت تركيا شنّت عمليات عسكرية من قبل في شمال سوريا (محافظة حلب ) وغربها (عفرين) لكن قواتها لم تعبر نهر الفرات الى الشرق تجنباً لمواجهة مع قوات اميركية متموضعة في محافظتيّ الرقة والحسكة.
"البنتاغون" (وزارة الدفاع الاميركية) اعلن ان اي عمل عسكري أحادي الجانب من شأنه ان يقوّض ما أسماه "المصلحة المشتركة لتأمين الحدود بين سوريا وتركيا بصفة دائمة". الحقيقة ان ما يهم واشنطن ليس "تأمين الحدود" بين البلدين الغريمين بل توفير الظروف الامنية والسياسية اللازمة لتحقيق غرضين : تفكيك سوريا خدمةً للكيان الصهيوني ، وتأمين اوسع الفرص واكبر الحصص للشركات الاميركية المتطلعة الى المشاركة في المشاريع المقبلة لإستخراج واستثمار النفط والغاز من منابعه الغنية في شمال سوريا وشرقها حيث اقامت القوات الاميركية قواعد ومطارات ومخازن اسلحة ومسارح تدريب وتجهيز.
اذا ما نفّذ اردوغان تهديده بغزو مناطق شرق الفرات ، مستغلاً إنشغال ترامب بإنعكاسات تمردّ الكونغرس على احتضانه محمد بن سلمان ودعمه السعودية في حربها الضارية على اليمن ، فإن تأزيماً كبيراً مرجحاً سينشأ بين انقرة وكلٍّ من موسكو وطهران ودمشق وبغداد. ذلك ان روسيا حريصة على وحدة سوريا واستكمال سيطرة جيشها على المناطق التي ما زالت في قبضة التنظيمات الإرهابية في شرق البلاد (شمال غرب دير الزور) وغربها (ادلب) وستفسر هجمة اردوغان على الاكراد السوريين شرق الفرات بأنها هدية وخدمة عسكريتين وسياسيتين للولايات المتحدة لتبرير وتمديد وجودها العسكري غير المشروع وغير المقبول في شرق سوريا.
سوريا كانت وما زالت اشد الساخطين والرافضين للتمدد التركي في شمالها الشرقي لكونها عانت وتعاني من مطامع انقرة المزمنة في اراضيها ومواردها الطبيعية ومن قيامها بفتح حدودها امام الإرهابيين المتدفقين من كل انحاء العالم للإنخراط في حرب وحشية ، منذ نحو سبع سنوات، ضد شعبها ووحدتها الجغرافية والسياسية . من الواضح ايضاً ان ايران تشاطر سوريا قلقها ورفضها انتهاكات تركيا لسيادتها كما مطامعها في اراضيها ومواردها ، وكذلك العراق الذي يعاني ايضاً من الإعتداءات التركية المتصاعدة في شمال البلاد بدعوى ملاحقة الانفصاليين الاكراد.
الى ذلك ، ثمة تخوّفات مما قد يلجأ ترامب الى فعله املاً بإنقاذ هيبته المتراجعة. في هذا السياق ، سرّب موقع "ميدل ايست آي" الإعلامي الالكتروني ، كما صحيفة "معاريف" العبرية ، اخباراً عن مبادرة لتلميع صورة ولي العهد السعودي بهندسة لقاءٍ دراماتيكي له مع نتنياهو برعاية ترامب في البيت الابيض. مهندسو هذه المسرحية يرمون ، في الداخل الاميركي ، الى استنفار اليهود الاميركيين ، والمسيحانيين الصهاينة، ودعاة تدويم سيطرة الرجل الابيض ، والمحافظين عموماً للإلتفاف حول الرئيس الابيض الحامل راية "اميركا اولاً" (و"اسرائيل" اولاً وآخراً!) في وجه اعدائها من "ارهابيين اسلاميين" وشعوب ملوّنة في اميركا اللاتينية وافريقيا وغرب آسيا ، تزحف بلا هوادة لإغراق اميركا البيضاء ، في ظنّه ، بملايين البشر السمر المتخلفين والمتعصبين والفقراء.
في هذه الأثناء ، يتابع نتنياهو وحلفاؤه العنصريون والمتطرفون حملة القمع والتنكيل والتقتيل المتصاعدة ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية ، كما حملة تطبيع العلاقات بين "اسرائيل" وبعض بلدان الخليج.
كل ذلك تمهيداً ، كما قيل، لتتويج محمد بن سلمان "رجل السلام في العالم " عشيةَ اطلالة العام الجديد 2019 !