جريدة"الخليج" الامارات العربية ، تاريخ 22/3/2014
من القانون الدولي الى "القانون الكياني" ؟
د. عصام نعمان
يمكن تعريف القانون الدولي العام بأنه مجموعة القواعد التي تنظم العلاقات بين الدول وتحدد حقوق كلٍ منها وواجباتها الدولة هي الاساس في منظومة القانون الدولي اذا كان الإنسان الفرد هو الاساس في الجماعة البشرية ، فإن الدولة هي الاساس في مجتمع الدول
الإتصال والتواصل والتعاون بين الدول حاجات ضرورية لحياتها وحياة مواطنيها وهي تتطلب وتستتبع قيام علاقات منتظمة ومستقرة فيما بينها من هنا تتضح مهمة القانون الدولي من حيث هي تنظيم العلاقات بين الدول وتوثيقها لتيسير سبل الحياة لمواطنيها ذلك ان مواطني جميع الدول اعضاء في المجتمع الإنساني العالمي
للقانون الدولي مصادر اصلية واخرى ثانوية المصادر الاصلية ثلاثة : العرف والمعاهدات ومبادىء القانون العامة العرف هو اكبر مصادر القانون الدولي ، ويتكوّن بتكرار الاعمال المماثلة بين دول مختلفة في امر من الامور غير ان العرف لا يصبح ثابتاً ما لم يقترن التكرار بإلتزام السير وفقاً لما جرت عليه العادة ، اي الإلتزام بأن التكرار والعادة واجب قانوناً ، وان هذا الإلتزام اضحى متبادلاً
المعاهدات هي اتفاقات تبرمها دولة مع دولة اخرى او اكثر في شأن من الشؤون ذات الطابع العام او المشترك بين الدول ، وهي لا تُلزم إلاّ الاطراف المتعاقدة
المبادىء القانونية العامة هي المبادىء الاساسية التي تستند اليها النُظم القانونية في مختلف الدول مثال ذلك إلزام الشخض المضرّ بالغير بإصلاح هذا الضرر، كما إلزام المتعاقد بما تعاقد عليه
المصادر الثانوية منبتها المادة 38 من النظام الاساسي لمحكمة العدل الدولية التي تجيز الرجوع الى "احكام المحاكم ومذاهب كبار فقهاء القانون العام في مختلف الامم كوسائل ثانوية لتحديد القاعدة القانونية" تضاف الى الاحكام ومذاهب الفقهاء ايضاً القوانين الوطنية فيما نصت عليه من قواعد دولية عامة
يتضح مما تقدّم بيانه ان الدولة هي حجر الأساس في القانون الدولي ، ومرتكز قواعده واحكامه ، ومسوِّغ تنظيم العلاقات بينها وبين الدول الاخرى وقد تطورت العلاقات الدولية والقواعد المنظمة لها مع تطور القانون الدولي على اساس التعاون والمشاركة بين الدول بدلاً من السيطرة والإكراه والإخضاع غير انها تعرضت ، على مر التاريخ ، الى صدامات واشكالات ناجمة عن ثورات وحروب وتطورات علمية وتكنولوجية ذات مفاعيل كونية هائلة الامر الذي ادى الى إحداث اختلالات في تطبيق القانون الدولي بل الى تغيير بعض قواعده وشلِّ بعضها الاخر فإكتشاف الطاقة النووية ، وصنع اسلحتها الفتاكة ، واستخدامها في الحرب (على اليابان سنة 1945) وريادة الفضاء الكوني والوصول الى كواكب بعيدة الآف السنين الضوئية ، واستغلال قاع البحار والمحيطات ، واندلاع ثورة الإتصالات (الانترنت) والمعلوماتية التي جعلت المسافة حالة ذهنية
كل هذه الثورات والتطورات والاحداث الهائلة انعكست على الدول المعاصرة ومجتمعاتها في مختلف انحاء العالم وأدت الى إحداث اضطرابات واختلالات اجتماعية وإقتصادية وسياسية فيها ولا غلوّ في القول إن اكثرها تأثراً وانفعالاً بها وتضرراً منها بلدانُ ما يسمى العالم الثالث او عالم الجنوب ، وفي مقدمها الاقطار العربية والبلدان الإسلامية في افريقيا وآسيا ولعل ابلغ مثال على هذه الظاهرة المتنامية ما نجم عن المخاض العميق والشامل المسمى "الربيع العربي" من اضطرابات واختلالات وانقسامات اصابت المجتمعات العربية وادت الى تفكيك بنى دولها ومؤسساتها السياسية والادارية والإقتصادية والإجتماعية
حتى قبل مخاض "الربيع العربي"، عانى بعض الاقطار العربية ثورات وإضطرابات وإنقلابات ادت الى إضعاف بنى الدولة وتفكيكها وبالتالي نشؤ كيانات داخلها له بعض صفات ومقوّمات الدولة ، وتمكّن تالياً من الحلول محل الدولة في منطقة او مناطق من اقليمها والنهوض ببعض المهام والمسؤوليات المنوطة بها عرفاً وتقليداً وقانوناً ودستوراً
الإنتفاضات الشعبية الفلسطينية المتتالية ادت الى نشؤ منظمة التحرير الفلسطينية وقد ادى كفاحها بالإضافة الى المفاعيل السياسية الناتجة عن اتفاقات اوسلو للعام 1993 الى جعلها كياناً سياسياً يحاكي في بعض وجوهه منظومة الدولة المعاصرة الظاهرة نفسها تكررت في قطاع غزة حيث ادت سيطرة حركة "حماس" وتنظيمات المقاومة الفلسطينية المتحالفة معها الى نشؤ كيان فلسطيني توأم لكيان رام الله يحاكي في مواصفاته ومؤسساته وممارسته منظومة الدولة المعاصرة
ظاهرة "الكيانية" تتبدى بشكل اضح في لبنان اذ ادى انهيار الدولة عشية حرب "اسرائيل" عليها العام 1982 وعدم نهوضها بعد جلاء القوات الإسرائيلية عن معظم اراضيها وتحكّم العدو في شريط على امتداد الحدود مع فلسطين المحتلة الى نشؤ كيان في جنوب لبنان ناب عن الدولة في مقاومة الإحتلال الإسرائيلي لغاية اكراهه على الجلاء العام 2000 كما تمكّن خلال حرب "اسرائيل" الثانية على لبنان العام 2006 من نقل الحرب الى ارض العدو ما ادى الى دحر العدوان واذ اصبح له قوة عسكرية ذات تأثير اقليمي ، شارك لاحقاً في الحرب الدائرة في سوريا في مناطقها المحاذية لحدودها مع لبنان
لحركة "طالبان" كيان عسكري وسياسي يتحكم بمناطق عدة في افغانستان ويقاتل بلا هوادة قوات دولة كبرى كذلك الامر في الصومال حيث لتنظيم اسلامي شبابي كيان عسكري وسياسي يقاتل "الدولة" القائمة والمدعومة من دول كبرى ومتوسطة اميركية واوروبية واسلامية
هذه الكيانات التي تحاكي في بعض مواصفاتها ومؤسساتها الدولة المعاصرة باتت تشكّل ظاهرة راسخة في حاضر العلاقات الدولية وتترك آثارها في قواعد القانون الدولي واحكامه فدول العالم ، كما المنظمات والمؤسسات الدولية ، السياسية والعسكرية والإنسانية ، تجد نفسها مضطرة الى التعامل مع هذه الكيانات وتقيم معها علاقات وتعقد اتفاقات إن إتفاق التهدئة بين حركة "حماس" وحليفاتها في قطاع غزة من جهة و"اسرائيل" من جهة اخرى الذي تمّ بعد عملية "عمود السحاب" العام 2012 ، ومؤخراً بعد العدوان الاسرائيلي على حركة الجهاد الإسلامي، مثال ساطع على اضطرار مجتمع الدول الى عقد اتفاقات مع بعض هذه الكيانات في ظروف استثنائية ويمكن ايراد امثلة اخرى عن اتفاقات مماثلة تمّت بين كيانات فاعلة في لبنان وافغانستان والصومال من جهة والدول القائمة في تلك البلدان من جهة اخرى
ظاهرة الكيانات المتنامية في العالم المعاصر ستترك آثارها في القانون الدولي وتؤدي الى تطوير بعض قواعده واحكامه من يدري ، فقد يتسع مسار التطوير والتعديل لدرجة قد يتفرّع عن القانون الدولي العام مصطلح القانون الكياني العام