نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريح 19/11/2018
المقاومة انتصرت بردع "اسرائيل"وضعضعة نتنياهو...
ماذا بعد ؟
د. عصام نعمان
من حق الفلسطينيين عموماً والمقاومة وحلفائها خصوصاً ان يبتهجوا للهزيمة المدوّية التي ألحقوها بالجيش الإسرائيلي في خان يونس مساء 2018/11/11 . ألم يعتبر إسرائيليون وازنون من كبار القادة العسكريين السابقين والخبراء الإستراتيجيين ، والإعلاميين ، وأهل الرأي ، ورموز الساسة الحاكمين ، وفي مقدّمهم وزير الحرب المستقيل افيغدور ليبرمان، بأن ما حدث هزيمةً عسكرية وسياسية نكراء للكيان الصهيوني ؟ هؤلاء أنفسهم بادروا في اليوم التالي الى طرح اسئلة لافتة ومحرجة ، أبرزها اثنان :
* لماذا جرى تنفيذ عملية بالغة الخطورة في عمق 3 كيلومترات داخل قطاع غزة وفي منطقة كثيفة السكان ، وبعد ساعات قليلة من مؤتمر صحافي عقده بنيامين نتنياهو في باريس أوضح فيه ضرورة بذل كل جهد من اجل التوصل الى تسوية في غزة وعدم الإنزلاق الى حرب ؟
* ماذا سيفعل نتنياهو وحكومته بعد هذه الصدمة الأشد وغير المسبوقة التي تعرّضت لها "اسرائيل" منذ حربها المفتوحة على غزة العام 2014 ؟
للإجابة عن هذين السؤالين ، تتوجب الإحاطة بأهم الواقعات والسيناريوهات والتداعيات السياسية والعملانية السابقة واللاحقة لعملية خان يونس الفاشلة . لعل ادق ما جرى استخلاصه في هذا المجال ما قاله رونين ايتسيك، القائد الاسبق للواء المدرعات والباحث حالياً في العلاقات بين الجيش الاسرائيلي والمجتمع في صحيفة "يسرائيل هيوم"(2018/11/14). ايتسيك لخّص النتائج والمفاعيل بالآتي :
اولاً، سيناريوهات الرعب التي عرضها قادة الجيش امام المجلس الوزاري المصغر كانت غايتها التحذير من مغبة الإقدام على مغامرة إعادة احتلال قطاع غزة.
ثانياً، التخوّف من اليوم التالي لإحتمال سقوط حكم "حماس" كان دافعه التحذير من صعود تنظيم آخر اكثر تطرفاً منها بكثير.
ثالثاً ، ان حرص حكومة نتنياهو في المحافظة على الإنفصال الحاصل بين غزة والضفة الغربية يرمي الى تمكينها من الادعاء بأنه لا يمكن الحوار مع الفلسطينيين في ظل "فتح" و"حماس" العاجزَتين عن التحاور فيما بينهما.
رابعاً ، تآكل النجاعة العملانية للجيش الإسرائيلي اذ من غير الممكن فهم كيف تنجح تنظيمات معادية في اطلاق الصواريخ بكثافة وفي وقت واحد وبوتيرة مدمرة ، بينما تقف مترددة في مواجهتها منظومةٌ متطورة من سلاح الجو الإسرائيلي ، والدفاع ضد الصواريخ ، والإستخبارات ...
خامساً ، عدم قدرة "اسرائيل" على التخلي عن اسلوب متجذّر مفاده أننا نفعل كل شيء فقط كي لا تشعر "حماس" للحظة واحدة بأنها في خطر فعلي الامر الذي أظهرنا ببساطة غيرَ مهمين في مواجهة "حماس" وحلفائها.
سادساً ، عدم القدرة على اعطاء سكان جنوب "اسرائيل" الثقة والإحساس بالأمن ما ولّد عدم ثقةٍ جذرياً بالجيش والحكومة وأساء الى خطة الحكومة الرامية الى زيادة عدد السكان في الجنوب وتوسيع المدن.
سابعاً ، اننا ظهرنا امام خصومنا جميعاً ، وخصوصاً ايران ، بأن حكومتنا مرتدعة ، وجيشنا ليس لديه اجوبة، ومواطنينا يعيشون مع الإحساس بعدم الأمان.
حيال هذه الصورة القاتمة التي ارتسمت في وعي الإسرائيليين لأنفسهم ولأوضاعهم ، ماذا يمكن ان يحدث على الصعيد السياسي ؟
من الواضح ان صورة نتنياهو ، الملقّب بـ "سيد الامن " لدى الجمهور، قد تشوهت لدرجة ان نحو 70 في المئة من المشاركين في استطلاعٍ للرأي غداة عملية خان يونس الفاشلة شجبوا موقفه المتخاذل ، وقد تُرجمت هذه النسبة المئوية السلبية العالية بأنها مؤشر الى خسارة مرتقبة في عدد نواب حزبه لا تقل عن اثنين في حال جرت الإنتخابات الآن. لهذا السبب فكّر نتنياهو بإسناد حقيبة وزارة الامن (او الحرب؟) الى غريمه ومنافسه على منصب رئاسة الحكومة ، رئيس حزب "البيت اليهودي" نفتالي بينيت ، لتفادي إستقالته وخروج نواب حزبه الثمانية من الإئتلاف الحاكم ما يُفقد حكومته ثقة الكنيست وبالتالي يُضطرها الى اجراء انتخابات مبكرة غير مأمونة النتائج . لكن معارضة اركان اقوياء في الإئتلاف الحاكم دفعته الى نبذ هذه الفكرة والإكتفاء بحكومة ضيقة يتولّى هو فيها وزارة الامن تفادياً لإنتخابات مبكرة ، يبدو ان لا مندوحة من إجرائها.
اذ تتخبط "اسرائيل" في ازمة سياسية معقدة ، يجد نتنياهو وقادته العسكريون أنفسهم امام تحدٍّ آخر لا يقل تعقيداً هو ما يجب ان يقوموا به ، عملانياً وإستراتيجياً بعد عملية خان يونس الفاشلة ومفاعيلها المحبِطة ؟
ثمة شبه إجماع بين المعلّقين العسكريين والخبراء الإستراتيجيين الإسرائيليين على ان عملية خان يونس لم تكن محاولة لإغتيال قيادي بارز في صفوف "حماس"، كما تردَدَ بادىء الامر، بل "كانت عملية غايتها جمع معلومات استخبارية لها علاقة بالبنية التحتية العسكرية لـِ "حماس" : أنفاق وتطوير سلاح . وربما لها ايضاً علاقة بمشكلة اخرى تعانيها "اسرائيل" في غزة : الاسرى والمفقودون خلال السنوات الاخيرة. وتستغل "اسرائيل" عادةً الفوضى في العالم العربي للقيام بعمليات كثيرة مشابهة وراء الحدود ، القسم الاكبر منها لا يجري الكشف عنه ولا يعرف به الجمهور". (انظر:عاموس هرئيل في "هآرتس"، 2018/11/12).
استنتاج هرئيل معقول ، لكنّي أرجّح ان الغاية المركزية لعملية خان يونس كانت تتعلق بما اسماه هرئيل "تطوير سلاح" ، مضمونها محاولة الكومندوس الإسرائيلي تعطيل موقع مختص بتطوير صواريخ المقاومة لجعلها اطول مدى واكثر دقة. ذلـك ان نجاح "اسرائيل" فـي تعطيل هذه الرافعة التكنولوجيـة يساعدها على تحقيق الأغراض المتوخاة من مخطط التهدئة في غزة والتطبيع مع دول الخليج بقصد اقامة حلف "ناتو" اسرائيلي-خليجي لترفيع فعالية حملة نتنياهو وترامب لتقويض قدرات ايران.
في ضوء هذه الواقعات والتحديات والإحتمالات يستقيم الإستنتاج بأن القيادة السياسية والعسكرية العليا في "اسرائيل" باتت في حال إرتباك سياسي وعسكري شديد يحول دون اتخاذها قرارات حاسمة خلال المرحلة الانتقالية التي يمرّ فيها الكيان الصهيوني في الوقت الحاضر ولغاية إجراء الانتخابات في العام القادم.
المهم ان تحرص قيادات اطراف محور المقاومة على إغتنام حال الإرتباك الإسرائيلية (والاميركية) بغية هندسة ردود سياسية وعسكرية كفيلة بإحباط سيناريوهات تكتيكية واستراتيجية تمور في عقول قيادات معسكر الأعداء.