نشر في جريدة"البناء" و"القدس العربي"
تاريخ 8/10/2018
هل يقاتل محور المقاومة
اذا استفرد العدو بقطاع غزة ؟
د. عصام نعمان
لا اسرار في عالمنا المعاصر . لا اسرار سياسية ولا اقتصادية ولا حتى عسكرية. ربما الامر الوحيد الذي يبقى سراً لحين لحظة التنفيذ هو قرار فتح النار على العدو. ما عدا ذلك ، كل "الأسرار" معروفة او يمكن كشفها او ، في الاقل ، يمكن تقدير مضمونها وأبعادها بدقة وشمولية.
في ضوء هذه الحقيقة ينتصب سؤال : كيف يفكر العدو الصهيوني في هذه الآونة ، وهل تراه يستهدفنا بحرب ؟
قادة العدو وخبراؤه العسكريون يعرضون في ابحاثهم تحديات الحرب واحتمالات اندلاعها او تفاديها في وسائل الإعلام العبرية بصراحة لافتة. من الضروري الإطلاع على ما يجول في رؤوس اهل الرأي لدى العدو وجنرالاته العاملين والمتقاعدين ، مع الحرص دائماً على التدقيق في آرائهم والإحتراس الموزون مما يذهبون اليه من اغراض وخيارات .
لعل عاموس يادلين أبرز قادة الرأي والخبراء الإستراتيجيين الصهاينة الذين يُستحسن الإطلاع على ارائهم وتحليلاتهم . فهو رئيس "معهد ابحاث الامن القومي" في جامعة تل ابيب والرئيس السابق لشعبة الإستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي. يادلين نشر تحليلاً في صحيفة "يديعوت احرونوت" (2018/10/4) اكّد فيه "ان اسرائيل تواجه تحديات امنية في 6 جبهات : البرنامج النووي الإيراني ؛ محاولات ايران التموضع عسكرياً في سوريا ولبنان (مع التشديد على مخاطر "الصواريخ الدقيقة")؛ تزويد سوريا بمنظومة S-300 الروسية للدفاع الجوي ؛ التهديد من طرف حزب الله ؛ التصعيد الآخذ بالاقتراب في قطاع غزة ؛ الإضطرابات في الضفة الغربية".
يعتقد يادلين ان التحدي الاكثر اهمية هو البرناج النووي الإيراني . لكنه يركّز على "ان خطر الإنفجار الاكبر في الوقت الحاضر هو في الجبهة الفلسطينية ، خصوصاً في قطاع غزة". لماذا؟ يقدّم يادلين سببين: ازدياد الضغط الاقتصادي على سكان القطاع ، وخطّ محمود عباس المتشدد حيال حركة "حماس" لدرجة يبدو معها معنياً "بإشعال مواجهة بين "حماس" و"اسرائيل" تؤدي الى إلحاق اضرار بالغة بهذه الحركة ، وتساهم في تعزيز قوة السلطة الفلسطينية".
لأهل "اليسار" الصهيوني وجهة نظر مغايرة . كتّاب ومعلّقون وخبراء كُثر منشغلون منذ اشهر في الإضاءة على وطأة الحصار المضروب على قطاع غزة والتحذير من مفاعيلها الخطيرة ليس على الاهالي فحسب بل على "اسرائيل" نفسها. بعضهم لفت المسؤولين الى ان ارتفاع نسبة البطالة ادّت الى ارتفاع نسبة المشاركة الشعبية في "مسيرات العودة" التي اضحت مسيرات شبه يومية وما عادت تقتصر على ايام الجُمَع. بعضهم الآخر حذّر من احتمال بلوغ حال اليأس مبلغاً يندفع معه الغزاويون ، مقاتلين ومدنيين، الى اختراق السياج الحديدي والناري الممتد على طول حدود القطاع مع مناطق فلسطين المحتلة إبتغاء الوصول الى بعض المستعمرات (المستوطنات) القائمة في محيط القطاع لأسر واحتجاز مجاميع من جنودها وادارييها .
جنرالات "اسرائيل" يعون هذه المفاعيل والمخاطر. بعضهم يدعو ضمناً اهل السلطة الصهيونية الى التخفيف من وطأة الحصار. بعضهم الآخر ، المتأثر بطروحات المستوطنين العنصريين في الضفة الغربية واصحاب الرؤوس الحامية من الحاكمين المتطرفين ، يدعو الى اجتياح القطاع بغية اقتلاع فصائل المقاومة واعادة فرض الإحتلال. غير ان كتّاباً ومعلقين وسياسيين من اهل "اليسار" يحذرون من مغبة الإنزلاق الى حرب
مدمرة لن تنال من اهل القطاع فحسب بل تمتد بمفاعيلها الكارثية الى قلب "اسرائيل" ذاتها.
نتنياهو وغالبية الوزراء في حكومته ( التي يقرر سياستها وتصرفاتها اهل اليمين العنصري والمستوطنون ) سادرون في غيهم ولا تستوقفهم مواقف معارضيهم الاقل تطرفاً . نتنياهو نفسه يبدو الاكثر تطرفاً. لماذا ؟ لأنه يريد إحتواء الملاحقات القضائية بحقه وبحق زوجته الناجمة عن إتهامات موثّقة بتقاضي رشى وصرف نفوذ . يريد ان ينهي هذا الفصل القضائي المُهين قبل الإنتخابات القادمة او يبتغي ، في الاقل ، التغطية عليه بمواقف سياسية تفجّر تيارات عصبوية جارفة.
يمكن القول ، في ضوء الواقعات والتطورات والتحديات سالفة الذكر، إن ثمة حالتين مضطربتين متفجرتين في كلٍّ من "اسرائيل" وقطاع غزة قد تتدحرجان، خصوصاً بسبب تصرفات العنصريين الصهاينة في الحكومة والكنيست والجيش والمستوطنات ، الى انفجار عسكري لن يتوانى نتنياهو عن إنتهازه وتوسيع أبعاده ليخدم ما يستبطنه ترامب في "صفقة القرن" من مرامٍ لتصفية قضية فلسطين وإعادة ترسيم الخريطة السياسية لبلدان المشرق العربي.
لذلك يجب عدم الإستهانة بإحتمال إندلاع حربٍ على حدود قطاع غزة مع فلسطين المحتلة . "اسرائيل" لن تعوزها الذرائع لإستغلال الحرب وتوسيع دائرتها بغية تحقيق مطامعها التوسعية في غمرة الإنقسام المحبِط بين الفلسطينيين ، والتشرذم المتفاقم بين سائر العرب ، والصراع الدولي والاقليمي المحتدم في سوريا وعليها.
على العرب الاحياء ، وجلّهم اليوم في تيار المقاومة ودوله المتحررة، ان يستجيبوا بعمق وجدّية للتحديات الخطيرة الماثلة ، وان يقرروا بحزم وصلابة مواجهتها بإحباط جهود العدو الصهيوني ومن معه ووراءه الرامية الى إستفراد قطاع غزة في سياق مخطط جهنمي لتصفية قضية فلسطين وتالياً سائر قضايا العرب. يجب التصدي للعدو بكل الوسائل المتاحة ، السياسية والاقتصادية والعسكرية ، وهي متوافرة ومتطورة بإقرار اطراف محور المقاومة ، حكوماتٍ وتنظيمات.
بكلمة ، حذار الإستهانة والإستهتار والتخاذل والسير على إيقاع اكثرنا جبناً وخنوعاً لئلا نجد انفسنا في قاع هزيمة تاريخية نكراء نردد بعدها بذلٍ وندم وحسرة : قُتلتُ يوم قُتل الثورُ الابيض ...