نشرت بجريدة "القدس العربي"
و"البناء" تاريخ 20/8/2018
فضيلتان مطلوبتان :
المصالحة الوطنية والتهدئة بين الفصائل اولاً
د. عصام نعمان
تبدو التهدئة في غزة بين فصائل المقاومة و"اسرائيل" الشغل الشاغل لكل هذه الاطراف بالإضافة الى مصر بما هي المحرّك الرئيس. يقال إن التهدئة ممكنة من دون السلطة الفلسطينية ، اي من دون حركة "فتح". لكن قياديين في "فتح" يحذرون من ان إقرار التهدئة اليوم مقدمة لقبول "صفقة القرن" غداً. فصائل اخرى مساندة لحركة "حماس" تحذّر ايضاً من مخاطر إقرار التهدئة قبل المصالحة الوطنية. القيادي البارز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ماهر الطاهر يتخوّف من ان يؤدي إقرار التهدئة قبل المصالحة الى دعم مساعي "اسرائيل" لفصل غزة عن الضفة الغربية.
كل هذه التحفظات لم تمنع رئيس الإستخبارات المصرية اللواء عباس كامل من زيارة تل ابيب للبحث في تفاصيل التهدئة المرتجاة ، كما لم تمنع ممثلي فصائل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الشعبية" و"الديمقراطية" و"الاحرار" و"المجاهدون" و"المقاومة الشعبية" و"لجان المقاومة "، وسط غياب مقصود لـِ "فتح"، من مناقشة مسودات متعددة للتهدئة مع عباس كامل ومساعديه في القاهرة . في موازاة ذلك ، تزداد وتيرة التحذيرات ، وبعضها يصل الى مستوى الإتهامات ، بين ممثلي الفصائل المحتشدين في القاهرة واعضاء المجلس المركزي المجتمعين برئاسة محمود عباس في رام الله. الى ذلك ، تتزايد التسريبات من مسؤولين اسرائيليين الى وسائل الإعلام الصهيونية حول التوصل الى إتفاق بشأن التهدئة والمباشرة في تنفيذ بعض بنوده.
لكن سؤالاً مفتاحياً يبقى مطروحاً : ايهما أهم وأولى بالإقرار اولاً ، المصالحة الوطنية بين الفصائل الفلسطينية ام التهدئة بين معظمها ، ثم مع "اسرائيل" تالياً ؟
كِلا الفريقين يلوم الآخر بشأن عرقلة المصالحة الوطنية ، كما ان فريق الفصائل الراغب في التهدئة يقدّم من الحجج (والشروط) ما يبرر الإقدام على إقرار تهدئةٍ لا تعرقل المساعي المبذولة لإقرار المصالحة الوطنية.
الحقيقة ان ثمة سؤالاً مركزياً كان وما زال مطروحاً ، قبل البحث في التهدئة وسيبقى مطروحاً بعد إقرارها ، هو : لماذا تأخرت الفصائل ، جميع الفصائل ، في التوصل الى المصالحة الوطنية المرتجاة ، وهل ما يمنع مسارعتها اليوم الى إقرارها بالتوازي مع المساعي المبذولة لإقرار التهدئة؟
من الواضح ان محمود عباس وانصاره في المجلس المركزي يركّزون على إحياء المطلب الرئيس وهو بناء الدولة الفلسطينية وتوسيع الإعتراف بها واعتبارهما اساساً متيناً لمواجهة "صفقة القرن" ووأدها في مهدها. حسناً ، ألا يتطلّب تحقيق هذا الهدف إقرار مصالحةٍ وطنية يتأتّى عنها توليد وحدة وطنية وتأكيد اعتبار قطاع غزة مكوّناً اساسياً من مكوّنات الدولة الى جانب الضفة الغربية في مسار تكاملها على كامل مساحة فلسطين التاريخية ؟ وهل كثير على محمود عباس واركان سلطته وقياديي "فتح" ان يستعجلوا تدوير الزوايا بغية التوصل مع سائر الفصائل الى إقرار مصالحة وطنية تكون اساساً وضمانة لتهدئة عملانية تُسهم في مساعدة اهل القطاع على مواجهة شرور الحصار ومتاعبه وتكلفته الإقتصادية والسياسية الباهظة ؟
ثم ، أليس جديراً بسائر الفصائل ، ولاسيما "حماس" ، ان تترسمل على نجاحها في ردع "اسرائيل" وإكراهها على إلتماس التهدئة كي تغتنم الفرصة المتاحة مرحلياً لتكييف مطالبها وشروطها مع ضرورات التوصل الى مصالحةٍ وطنية قبل إقرار التهدئة مع "اسرائيل" ؟
اذا كان كسر الكيان الصهيوني عسكرياً متعذّراً في الوقت الحاضر ، فإن كسر الاهواء والنوازع والمصالح الذاتية بغية التوصل الى مصالحة وطنية ليس معجزةً تتطلب تدخلاً إلهياً بل يكفي توافر إرادة وطنية قاطعة وقرار سياسي حاسم .
ثم لنفترض آسفين ان إقرار المصالحة الوطنية لن يسبق إقرار التهدئة العملانية، فهل يصعب على صنّاع اتفاق التهدئة ان يضمنّوه احكاماً وبنوداً تسهّل إقرار المصالحة الوطنية لاحقاً او تحول ، في الأقل، دون عرقلتها او الايحاء بأن مسار التهدئة يقود ، لا سمح الله ، الى الفصل بين قطاع غزة والضفة الغربية ؟ لتحقيق هذه الغاية النبيلة يمكن تضمين محضر اتخاذ قرار الفصائل بالاتفاق على التهدئة العملانية الاحكام والإلتزامات الآتية :
اولاً ، ان الفصائل الموقعة عليه والملتزمة احكام التهدئة العملانية المعلنة هي جزء من منظمة التحرير الفلسطينية بما هي الممثل الشرعي للشغب الفلسطيني المناضلة من اجل التحرير والعودة ، كما من اجل بناء الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل مساحة فلسطين التاريخية .
ثانياً ، ان فصائل المقاومة الفلسطينية تجدد دعوتها الى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على نحوٍ يؤمّن اضطلاعها بقيادة الشعب الفلسطيني في مقاومته المدنية والميدانية من اجل التحرير والعودة.
ثالثاً ، إن الهدف الاساس لإقرار التهدئة العملانية هو التخفيف من شرور الحصار الوحشي الذي تفرضه "اسرائيل" على قطاع غزة وسكانه، وان إلتزام التهدئة لن ينهي او يعطل كفاح فصائل المقاومة الفلسطينية من اجل رفع الحصار نهائياً ، وفتح جميع المعابر الموصلة الى القطاع ، وتأمين تواصل سكان القطاع ومؤسساته مع الشعب الفلسطيني في وطنه وشتاته ، ومع الامة العربية قاطبةً .
رابعاً ، إن إقرار التهدئة والوفاء بمتطلباتها لن يُعطّلا او يُوهنا إلتزام فصائل المقاومة الفلسطينية بإقرار المصالحة وبناء وحدة وطنية تقود الى إقامة حكومة وفاق وطني تكون مسؤولة عن ادراة الشؤون العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة والمرجع الرئيس لتمثيل الدولة الفلسطينية في المحافل الدولية .
خامساً ، إن فصائل المقاومة الفلسطينية تعتبر نفسها جزءاً لأ يتجزأ من جبهة المقاومة العربية ضد التحالف الصهيو-اميركي المعادي للأمة العربية ومصالحها القومية ، وتؤكد إلتزامها التضامن الفعلي مع دول الطوق العربية بكل القدرات والوسائل المتاحة في حال تعرضها الى اي عدوان من "اسرائيل" وحلفائها.
لعل في اعتماد هذه المقاربة ما يفضي ، في غمرة التحديات والظروف الشائكة الراهنة ، الى تحقيق فضيلتين ساميتين في زماننا الرديء : التهدئة العملانية والمصالحة الوطنية .