نشرت بجريدة"البناء"
تاريح 11/8/2018
لا "صفقة قرن" ولا تسوية على غزة ؟
د. عصام نعمان
تشعر القيادات الفلسطينية بأن "صفقة القرن" الترامبية أصبحت وراءها. لا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وزملاءه في حركة "فتح" تقبّلوها ولا فصائل المقاومة وافقت على مجرد البحث في الأمر. وكيف يمكن لهذه القيادات جميعاً ان ترتضي صفقةً او تسويةً باشر الرئيس الاميركي تسويقها بإعلانه القدس عاصمــة لـِ "اسرائيل" ونقل سفارته اليها؟
فصائل المقاومة لم تكتفِ برفض "صفقة القرن" بل شفعت ذلك بإطلاق "مسيرة العودة" على طول السياج الفاصل بين قطاع غزة وغلافه المكّون من جملة مستعمرات (مستوطنات) لا يقلّ عدد سكانها عن مئة الف. واللافت في هذه المسيرة التي تنطلق كل يوم جمعة بروز اسلحة مبتكرة اتقن الشباب المقاوم استعمالها ، قوامها بالونات مفخخة وطيارات ورقية حارقة ، تسبّبت بإحراق عشرات الآف الدونمات من الحقول والمحميات الطبيعية ("معاريف" 2018/8/6).
"اسرائيل" تضررت كثيراً من ردود فعل فصائل المقاومة على حال الحصار الوحشي المضروب على قطاع غزة ، فتظاهر بعض القادة الصهاينة بإستعدادهم للبحث في تسويةٍ تنطوي على هدنة او تهدئة طويلة الامد. وسطاء متعددون دخلوا على خط تقريب وجهات النظر بين الجانبين ابرزهم اثنان : مندوب الامم المتحدة الى الشرق الاوسط نيكولاي ملادينوف، ورئيس ادارة الإستخبارات المصرية اللواء كمال عباس. محاولات التوسط توخّت ، بادىء الامر ، توليف تسوية كبرى تشمل مراحل عدة ابرزها :
-
تبادل اسرى بين الجانبين.
-
تسهيل مرور البضائع في معبر كرم ابو سالم الخاضع للسيطرة الإسرائيلية.
-
فتح معبر رفح بين قطاع غزة ومصر.
-
توسيع مناطق الصيد البحري قبالة غزة.
-
تسريع محادثات المصالحة بين حركتيّ "فتح" و"حماس" لإقامة حكومة وفاق وطني بغية نقل المسؤولية المدنية عن قطاع غزة الى السلطة الفلسطينية في مقابل دفع رواتب اكثر من 40 الف موظف في القطاع.
وكانت ثمة طموحات ايضاً لتنفيذ مبادرات لاحقة لزيادة انتاج الكهرباء، واقامة معمل لتحلية المياه ، وتحسين البنى التحتية في القطاع .
"حماس" أبدت استعداداً للسير في المبادرات سالفة الذكر بغية تخفيف وطأة الحصار عن سكان القطاع من خلال توافقٍ على وقف اطلاق النار وفتح المعابر. "اسرائيل" كانت مهتمة ايضاً بوقف الحرائق والأضرار ومشاعر القلق التي يكابدها سكان المستعمرات القريبة من القطاع . لكن المحادثات تعثّرت لأسباب عدة :
على الصعيد الإسرائيلي ، واجه بنيامين نتنياهو معارضة قوية من احزاب اليمين العنصري ، شركائه في الحكومة ، الذين رفضوا تقديم تنازلات لـ"حماس" على جميع المستويات الامر الذي حال بينه وبين تقديم تسهيلات محدودة لوقف اطلاق النار. بالعكس ، ازاء ذلك ، آثر نتنياهو الترسمل على تصلّب احزاب اليمين لزيادة طلباته وتصعيد شروطه وذلك بوضع شرطٍ مسبق للتسوية هو اعادة جثمانيّ الجنديين وكذلك المواطنين الإسرائيليين اللذين ما زالا على قيد الحياة في قبضة "حماس".
على الصعيد الفلسطيني ، طالبت "حماس" بعدما ادركت فعالية حملة البالونات المفخخة والطائرات الورقية الحارقة بثمنٍ اعتبرته "اسرائيل" مرتفعاً للإفراج عن الاسرى هو اطلاق مئات الاسرى الفلسطينيين ، وبينهم قادة وكوادر مرموقة.
الى ذلك ، تضاءلت رغبة نتنياهو في التوصل الى حالة مؤقتة لوقف إطلاق النار بعدما اطلق ترامب الوجبة الاولى من عقوباته الإقتصادية ضد ايران وتهديده الدول والشركات التي لا تلتزم بها. فوق ذلك ، اصبحت "حماس" اقل مرونة ازاء "اسرائيل" بعدما لاحظت ان دخول مصر على خط التسوية والحدّ تالياً من مفاعيل الحصار يشي بإحتمال قيامها بفتح معبر رفح مدداً طويلة. كذلك ، لايمكن تجاهل عدم حماسة "فتح" لتوقيع تسوية بين "حماس" و"اسرائيل" تفادياً ، في رأيها ، لتعزيز عملية الإنفصال بين قطاع غزة والضفة الغربية .
هذه التطورات اقلقت القيادة الإسرائيلية وحملتها على محاولة ليّ ذراع المقاومة بقصف مواقعها وتجمعات السكان بالطيران والصواريخ . لكن المقاومة ردّت بعنف وتصميم على رفض تغيير قواعد الإشتباك وذلك بإطلاق عشرات الصواريخ التي اصاب احدها مدينة بير سبع في عمق النقب المحتل .
بإختصار ، ليس في المناخ الاقليمي ولا في المناخ الدولي ما يشجع المتصارعين عموماً ، والمقاوميين الفلسطينيين والمحتلين الصهاينة خصوصاً ، على سلوك طريق الحوار والتفاوض . بالعكس ، تتفاقم الصراعات والمنازعات الاقليمية بعد لجؤ ترامب الى تفعيل سلاح العقوبات ضد ايران ومطالبته دول العالم بمشاركته حملته تلك الامر الذي يشجع خصوم ايران الاقليميين، ولاسيما "اسرائيل" ، على اعتبار مسألة مواجهتها اولوية اولى ، فيتراجع جرّاء ذلك الإهتمام بتسوية نزاعات اخرى خصوصاً مع الفلسطينيين الذين تعتبرهم "اسرائيل" (واميركا ايضا)حلفاء لإيران.
"صفقة القرن" اصبحت من الماضي ، لكن "تسوية غزة" ليست "حاضرة" بما فيه الكفاية في الوقت الحاضر. ذلك ان موازين القوى الاقليمية والدولية ما زالت غير متكافئة ما يؤدي الى إندلاع اشتباكات ونزاعات اضافية وبالتالي الى اطالة امد الصراعات.