أفكار خام حول
"الإعلام العربي والتطورات الإقليمية"
د.عصام نعمان
دعانا مركز دراسات الوحدة العربية الى ندوة موضوعها "الإعلام العربي والتطورات الاقليمية" . جاء في الدعوة ان تحوّلات عدّة تعرّض لها الإعلام العربي خلال ما عُرف بالربيع العربي، وكذلك الى هزات وتبدّلات، كما تأثر بتنوعات وتناقضات في مُقارباتٍ ورؤى ترتبط بتطوراتٍ سياسية وإقتصادية وتكنولوجية أصابت الإعلام ووسائله في المحتوى والشكل والاسلوب.
لاحظتُ ان موضوع الندوة ركّز على لون محدد من الإعلام هو الإعلام المهني ، إن صحّ التعبير ، اي الإعلام المتعارف عليه الذي يتوسّل في ادائه الصحيفة والاذاعة والتلفزيون وينهض به إعلاميون مهنيون ، واحياناً هواة ، يأخذون وقتهم في التفكير والإعداد والصياغة والنشر والبث.
موضوع الندوة أغفل لوناً آخر من الإعلام لا اسميه إعلاماً بديلاً بل هو اعلام مغاير. إنه الإعلام اللحظوي الذي يشارك فيه افراد بل جمهور ، وربما جماهير ، من مهنيين وهواة وافراد وجماعات اضحى الوقت بالنسبة اليهم مجرد حالة ذهنية ، او بالأحرى مورداً متاحاً ، يمكن ان يغرف منه المشارك ، مهنياً كان او هاوياً ، ما يشاء ومتى يشاء ، وان يصل عبره الى اوسع الاوساط والجماعات.
الى ذلك ، لا اهمية كبيرة لعامل المال في الإعلام اللحظوي اذ في وسع المشارك ان يتواصل مع جمهوره بوسائل التواصل الإجتماعي بتكلفة زهيدة للغاية وفي ما يمكن تسميته اللاوقت ، اي من دون ان يتكلّف رسماً او بدلاً مادياً عن الوقت الذي تتطلبه الكتابة او الاذاعة او البث في التلفزيون.
لاحظتُ ايضاً ان احداً ممن يمكن اعتباره ممثلاً للإعلام اللحظوي كان مدعواً الى الندوة الامر الذي حرمنا من الإحاطة بواقع هذا القطاع
ومشاكله ومرتجياته ، كما حرمنا تالياً من استخلاص دروس وعبر من تجربته المغايرة.
قيل إن الإعلام يقوم غالباً بدور الداعية وليس بدور القيادة . ارى ان هذا التوصيف للإعلام والحكم عليه الكثير من التسرع والإجحاف. ذلك ان ثمة اعلاميين قياديين مؤثرين الى جانب كونهم دعاة. محمد حسنين هيكل ، مثلاً، كان اعلامياً قيادياً وصاحب دور قيادي ولاسيما في فترة انفصال سوريا عن مصر (ايام جمعتهما الجمهورية العربية المتحدة) كما في الفترة التي أعقبت سقوط نظام الإنفصال سنة 1963 ومباشرة مباحثات بين حكام سوريا الجدد والرئيس الراحل جمال عبد الناصر لتجديد الوحدة بين القطرين.
اذكر في تلك الفترة انه ما ان كان هيكل يكتب مقالاً ويُنشر ويُذاع حتى تقوم تظاهرات في كل انحاء سوريا اذ كانت له صدقية نابعة من قربه من عبد الناصر من جهة وافكاره الوازنة ومقاربته الماتعة للأحداث وتفسيرها من جهة اخرى . طلال سلمان كان له كهيكل ، ولو بنسبة ادنى ، دور قيادي في تطورات السياسة اللبنانية ولاسيما في عقد السبعينات من القرن الماضي. الصفة والدور القياديان ينطبقان ايضاً على عبد الباري عطوان لعطائه المتميز من خلال صحيفة "القدس العربي" كما من خلال موقعه الالكتروني "رأي اليوم".
ثمة قياديون مؤثرون ايضاً في الإعلام اللحظوي . لاحظتُ من خلال مشاهداتي ومتابعاتي ان لبعض القياديين في الإعلام اللحظوي دوراً مؤثراً ، له جانب ايجابي حيناً وسلبي حيناً آخر. الجانب الايجابي يتمثّل في الدعوة والتعبئة والحث على العمل من اجل نصرة القضايا الحياتية والإجتماعية او القضايا الوطنية والسياسية . الجانب السلبي يتمثّل في إغراق الرأي العام في بحر من المعلومات – غثّها وسمينها - والاراء والتطلعات والمواقف لدرجة تنشأ معها ظاهرة تشتت وتشتيت وحتى استحالة في تكوين رأي او موقف جماعي موحِّد.
ظاهرة التشتت والتشتيت هذه من شأنها ان تنعكس سلباً على الديمقراطية . ذلك ان الديمقراطية ليست فقط حرية التفكير والتعبير
والإختيار بل هي ايضاً الحاجة والفرصة الى تكوين اكثرية واقلية للحكم والمعارضة . لكن وسط هذه الطوفان المعلوماتي ، إن صحّ التعبير ، يصبح من الصعوبة بمكان تكوين اكثرية سياسية (او معارضة) لمدة طويلة اذ يتسبّب تدفق المعلومات والافكار والمواقف بسرعة قياسية ومتواصلة الى ان لا يبقى امر او قرار على حاله . ألا تستدعي هذه الظاهرة المتوسعة والمتطاولة البحث في صيغة اخرى للحكم او ، في الأقل ، لتكوين قرار نافذ؟
ثمة مقاربة مغايرة لمعالجة هذه المشكلة على صعيد الاداب والعلوم والفنون والقيادة تمثّلت في قيام مجموعة اكاديمية عالية الكفاءة والإستقامة في السويد تتولى سنوياً تقييم نتاج ادباء وعلماء وفنانين وحتى سياسيين ثم تحكم باعطاء المتفوقين بينهم جائزة نوبل في كلٍ من الحقول المار ذكرها.
اذا كان ثمة نخبة من الحكماء تستطيع التقييم والإختيار في حقول الاداب والفنون والعلوم ، فلماذا لا تكون هناك نخبة مماثلة تستطيع الامر نفسه في حقل التمثيل السياسي والحكم ؟ أليس من الممكن ، ازاء صعوبة تكوين اكثرية تحكم واقلية تعارض بسبب الطوفان المعلوماتي الناجم عن كثافة استخدام وسائل الإعلام اللحظوي ، التوافق على تكوين هيئة من الحكماء الافذاذ تتولى ، بعد التدقيق والتقييم ، تسمية الافضل بين الذين يترشحون لتمثيل الشعب او للحكم ، ما يؤدي الى التأثير في القاعدة الشعبية الناخبة ويساعدها على حسن الإختيار الصحيح ؟ بل لماذا لا تقوم هيئة الحكماء هذه بتسمية ، حتى لا أقول بتعيين ، اشخاص الحاكمين على ان يبقى للشعب ، عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، الحق في رفض قرار هيئة الحكماء في عملية تصويتٍ جماعي؟
ثم ، أليس من الممكن والمجزي طرح هذه الفكرة على الرأي العام عبر وسائل التواصل الإجتماعي وغيرها من وسائل الإعلام اللحظوي بغية تقدير صوابيتها ومقبوليتها ؟