نشرت بجريدة "القدس العربي" و"البناء"
تاريخ 4/6/2018
في سوريا كما غزة
المواجهة اكرم من المساومة
د. عصام نعمان
من الواضح ان دمشق قررت تحريك الجيش السوري جنوباً لتحرير محافظتي القنيطرة ودرعا من جيوبٍ لفصائل ارهابية ما زالت متمركزة فيهما . دمشق ترسملت على انتصاراتها الاخيرة في غوطتها الشرقية ونجاحها في تنظيف محيط العاصمة من الإرهابيين لتزخيم تحرير ما تبقّى من مناطق محتلة.
عودة الجيش السوري الى خطوط وقف اطلاق النار في الجولان يُقلق حكومة اسرائيل بعدما تأكّدت من ان روسيا تدعم سوريا في تحركها التحريري والسيادي . وزير حربها افيغدور ليبرمان سارع الى موسكو لبحث المسألة مع وزير دفاعها سيرغي شويغو. الصحف الإسرائيلية إدّعت ان شويغو قدّم لليبرمان عرضاً : تمكين الجيش السوري من العودة الى مواقعه السابقة للحرب في الجولان مقابل إزالة مواقع ايران العسكرية وقوات حزب الله في المنطقة المحيطة بنقاط تمركز الجيش السوري بعمق 70 كيلومتراً.
بنيامين نتنياهو أبلغ وزير حربه رفضه العرض الروسي. ذلك أن ما يبتغيه هو صفقة أوسع وأشمل : إزالة كل قواعد ايران العسكرية في سوريا وإخراج قوات حزب الله وسائر فصائل المقاومة التي تدعم الجيش السوري في حملته على التنظيمات الإرهابية في البلاد.
اسرائيل واميركا إبتأستا لنجاح الجيش السوري في طرد الإرهابيين المتعاونين معهما من محيط دمشق كما من جيوب ومواقع في ارياف حمص وحماة وحلب . من الواضح ان تل ابيب وواشنطن تريدان إبقاء الحرب في سوريا وعليها متّقدة بغية استنزافها وإنهاكها.
لتحقيق اغراضها السياسية والإستراتيجية ، لجأت تل ابيب الى المناورات والمقاربات الآتية :
-
محاولة "إغراء" دمشق ، عبر موسكو ، بإستعدادها للتخلي عن دعم الفصائل الإرهابية في جنوب سوريا لتمكين الجيش السوري من استعادة مواقعه في الجولان ما يمكّن القوات الدولية تالياً من استعادة مواقع تمركزها في المنطقة عينها .
-
التشديد على الاردن ، عبر واشنطن ، بوجوب الإمتناع عن فتح معبر نصيب الحدودي مع سوريا إلاّ في إطار تفاهم متكامل يتمّ بالتوافق بين اميركا وروسيا واسرائيل على مستقبل الوضع في سوريا .
-
التلويح بمساعٍ تبذلها اسرائيل للحصول على اعترافٍ من اميركا بسيادتها على الجولان المحتل بغية مضاعفة الضغط على دمشق للإذعان الى مطلب إزالة قواعد ايران العسكرية في سوريا وإخراج قوات حزب الله الرديفة للجيش السوري .
اميركا دعمت سياسة اسرائيل في وجه سوريا بإعتماد المواقف الآتية:
-
إبقاء قواتها في قاعدة التنف قرب الحدود السورية - العراقية بدعوى ضرورة متابعة الحرب ضد "داعش" في شرق نهر الفرات .
-
دعم قوات سوريا الديمقراطية "قسد" التي تقودها "قوات حماية الشعب الكردي" المتحالفة مع اميركا وإعدادها لتلعب دوراً في عملية تفكيك سوريا الى كيانات سياسية منفصلة عن الحكومة المركزية السورية وذلك في سياق عملية الضغط عليها للقبول بطلبات اسرائيل سالفة الذكر.
-
التلويح بإمكانية موافقتها على طلب اسرائيل الإعتراف بسيادتها على الجولان المحتل في سياق الضغوط عينها.
لا تبدو موسكو متجاوبة مع طلبات اسرائيل او ضغوطها وإن كانت تحبذ اغتنام سيطرة الجيش السوري على معظم المناطق التي كانت تحت سيطرة "داعش" والنصرة" من اجل تعزيز المساعي الهادفة الى اجراء مفاوضات بين الأطراف السوريين للتوافق على تسوية سياسية للأزمة . لكن يمكن الجزم بأن موسكو لن توافق على اية ترتيبات مع واشنطن او تل ابيب من شأنها المسّ بوحدة سوريا وسيادتها .
ازاء هذا الوضع ، ماذا تراه يكون موقف دمشق ؟
يُستفاد من مقابلةٍ اجراها تلفزيون "روسيا اليوم" مع الرئيس بشار الاسد انه عاقد العزم على :
-
دفع الجيش السوري للسيطرة على جميع المناطق التي ما زالت خارج السيادة السورية في جنوب البلاد وشمالها وشرقها.
-
التفاوض مع قادة الكرد السوريين للتوصل الى تسوية تصون سيادة سوريا على كامل ترابها الوطني ، واذا رفضوا فإنه لن يتردد في استعمال القوة لتحقيق هذا الهدف.
-
رفض مطلب اخراج قوات ايران المتواجدة في سوريا بترخيص منها كونه امراً سيادياً يخصّ دمشق وحدها ، مع التشديد على ان لا قوات ايرانية في البلاد بل مجرد ضباط يعملون بصفة مستشارين لدى الجيش السوري.
-
رفض الضغوط الاميركية ، ومن ضمنها تمسك واشنطن بإبقاء قواتها في منطقة التنف الحدودية . وقد اكد وزير الخارجية وليد المعلم ضرورة إنسحابها كشرط للبحث في اتفاق بشأن الوضع في جنوب سوريا.
-
عدم الإكتراث بتلويح تل ابيب بموافقة واشنطن على الإعتراف بسيادة اسرائيل على الجولان المحتل كون سوريا متمسكة بموقفها الثابت برفض الإحتلال ومفاعيله السياسية والتصميم على استعادة جميع الاراضي المحتلة بكل الوسائل المتاحة ، عاجلاً او آجلاً .
ماذا يمكننا ان نستخلص ونستشرف من مجمل المعطيات والتطورات المبيّنة آنفاً ؟
ارى ، وربما غيري كثيرون ، ان المواجهة اكرم من المساومة في صراعنا مع العدو الصهيواميركي. المواجهة اكرم ، بمعنى اشرف واسخى واجدى ، من المساومة ولاسيما في سوريا وغزة. ذلك ان موازين القوى بيننا وبين العدو تميل ببطء لكن بثبات لصالحنا.
بإختصار ، لنبدأ برأس الحربة : اميركا . لعل ما ينطبق عليها بدقةٍ اليوم هو نظريةُ المؤرخ البريطاني المرموق بول كنيدي Paul Kennedy في كتابه الاشهر: صعود وسقوط القوى العظمى The Rise and Fall of Great Powers. يرى كنيدي ان الدول العظمى في التاريخ سقطت جرّاء عجزها عن الوفاء بإلتزاماتها الخارجية الواسعة ، المادية ، المتشعبة ، والمرهقة .
اميركا تنؤ اليوم بدين داخلي بعشرات تريليونات الدولارات ، وتعاني عجزاً في موازين التبادل التجاري مع الصين واليابان واوروبا ، وتتحمل نفقات بمليارات الدولارات لنحو الف قاعدة عسكرية في العالم بلا مردود سياسي واقتصادي مجزٍ ، وتخوض حرباً تجارية مع دول عدّة ، حليفة او منافسة ، الامر الذي يُضعف جهودها ويضاعف موجباتها ويُكثر خصومها في العالم .
اسرائيل تعيش في الوقت الحاضر مآزق عدّة ، سياسية وعسكرية واقتصادية : تخشى من تنامي قدرات ايران التكنولوجية والعسكرية واتساع نفوذها وتأثيرها ، وتَقلَقْ لإنعكاسات دعمها المتعاظم لفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن ، ومخاطر اندلاع الحرب على جبهتي غزة ولبنان في آن مع ما يمكن ان تتسبّب به من خسائر هائلة في مرافقها الحيوية ولاسيما في منشآتها النفطية البحرية ، ناهيك عن تداعيات التفوق الديموغرافي الفلسطيني على حاضر الكيان الصهيوني ومستقبله.
صحيح ان بلاد العرب معتلّة بصورة عامة ، ولاسيما الاقطار المحيطة بإسرائيل ، لكن القوى الحية المتمثلة بحركات المقاومة تبدو فاعلة وقادرة على تفعيل عملية إنهاض جدّية وواعدة . الى ذلك ، لا يبدو ان ثمة خياراً آخر بديلاً ومجدياً . فنهج التنازل وعقد الاتفاقات التسووية لم يؤدِ الى اي نتيجة مجدية بل تسبّب بمزيد من التراجعات والتنازلات . ذلك ان العنصرية والغطرسة اللتين تمكّنتا من العدو الصهيوني جعلتاه عاجزاً عن تقديم تنازلات او الوفاء بإلتزامات محسوسة .
هكذا اصبحت المقاومة عندنا غاية ووسيلة.