نشرت بجريدة"القدس العربي"و"البناء"
تاريخ 3/4/2018
هل نقرأ ترامب
من اقواله ام من افعاله ؟
د. عصام نعمان
كم هو صعب ومحيّر فهم هذا الرجل . هل نقرأه من اقواله ام من افعاله ؟ ايّاً ما كانت الطريقة فإن النتيجة تبقى من طراز: صدّق او لا تصدّق!
ان ايّ محاولة لفهم دونالد ترامب هي تمرين في التخمين. لعل للرجل في باطنه مجموعة هواجس تتزاحم ، وفي ظاهره شريحة تقلبات تتبدّى ثم تتبدّد . انه شخص لغز لا يمكن توقع ما سيقول او يفعل في اي زمان ومكان . قبل ايام ، في خلال مناسبة مخصصة لملف البنى التحتية في الولايات المتحدة ، اطلق تصريحاً اخذ المسؤولين في بلاده كما في العالم على حين غرّة . قال: "سنغادر سوريا قريباً ونترك للاطراف الاخرى ان تهتم بالامر، وسوف نسيطر مئة في المئة على ارض الخلافة بشكل سريع ونعود الى ارضنا ، الى حيث ننتمي ونتمنى ان نكون" .
ما الذي دفع ترامب الى التفوّه بهذا الكلام ؟
تعدّدت الاراء والاجتهادات . بعضها مال الى ترجيح دافعٍ اقتصادي واشار الى عبارة لافتة وردت في تصريحه : "الولايات المتحدة انفقت 7 تريليونات دولار في الشرق الاوسط ولم تجنِ منها شيئاً" .
الدافع الاقتصادي ممكن ومعقول . فقد سبق لترامب ، كما لغيره من مرؤوسيه ، ان شكا من ضخامة ما تتكبده الولايات المتحدة من نفقات على إلتزامات امنية واغاثية في الخارج ، وان واشنطن تعتزم خفض دعمها المالي لوكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين ، وانها طالبت دولاً عدّة في اوروبا بزيادة حصتها من نفقات حلف شمال الأطلسي . ثم انها طلبت ، واستوفت ، خلال زيارة ترامب الاخيرة للسعودية ، ما لا يقل عن 480 مليار دولار كأجور عن "خدماتها" الامنية
للمملكة خلال ما يزيد عن عشرة عقود .
فئة اخرى من اصحاب الرأي رجّحت ان لتصريح ترامب دافعاً سياسياً وامنياً ناشئاً عن اقتناع واشنطن بأنها خسرت معركة توظيف "داعش" و"النصرة" وغيرهما في مخطط تقسيم سوريا ، دولةً وشعباً ، وانها اضحت في صدد الإنتقال الى مقاربة اخرى يتطلبها مخطط مواجهة ايران ، ولاسيما بعد الإلغاء المرجّح للإتفاق النووي في شهر ايار/مايو المقبل ، وما يمكن ان يترتّب على واشنطن في ضوء ذلك من ضرورة لإعادة النظر بوجودها العسكري في سوريا والعراق وربما ًفي افغانستان ايضاً .
اللافت ان وزارة الخارجية أُخذت فعلاً على حين غرة بتصريح ترامب حول مغادرة سوريا. الناطقة بإسمها كادت تُقسم لمندوبي وسائل الإعلام بأن مسؤولي الوزارة لا علم لهم بمضمون التصريح او بتوقيته . قالت إنها تفضّل مراجعة البيت الابيض قبل تقديم اي تفسير مجزٍّ للإعلام ، لكنها لم تتوانَ عن القول إن لا وجود لخطة لدى الخارجية حول سحب القوات الاميركية من سوريا .لاحقاً ، ادلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بدلوه في مجلة "تايم" مطالباً اميركا بإبقاء قواتها في سوريا .
اذا كان تصريح ترامب مفاجِئاً فإن عدم جدوى بقاء قوات عسكرية لاميركا في سوريا لم يكن كذلك لمعظم اعضاء الكونغرس . فالسفير الاميركي السابق في سوريا ، روبرت فورد ، سبق ان كشف خلال جلسة استماع امام احدى لجان الكونغرس ان مجابهة ايران عبر الوجود العسكري والمدني الاميركي في سوريا لن يكون مجدياّ ، وان الافراد العسكريين والمدنيين الاميركيين "سيكونون عرضة للإستهداف بعمليات غير مباشرة من قبل شبكات الإستخبارات السورية الناشطة هناك" .
الى ذلك ، فإن واشنطن مضطرة الى الاخذ في الحسبان ، عند اعادة النظر بوجودها العسكري في سوريا ، مسائلَ عدّة عالقة وشائكة :
- علاقتها السياسية والعسكرية مع الكُرد السوريين الذين تعاونوا معها في مواجهة "داعش" كما في مراعاة علاقتها الحساسة مع تركيا .
- تركيا التي تعتبر "قوات سوريا الديمقراطية-قسد" (التي وظّفتها واشنطن لحسابها في سوريا) تنظيماً كردياً ارهابياً ومجرد فرع لحزب العمال الكردستاني التركي المنخرطة معه في حرب متطاولة منذ سنوات .
- "اسرائيل" التي توظّف لمصلحتها ولأغراضها بعض التنظيمات الإرهابية الناشطة في جوار الجولان السوري المحتل ، وتريد معرفة هوية القوات التي ستحل محلها اذا ما استوجبت التسوية السياسية المقبلة انسحابها من مناطق انتشارها .
- الترتيبات السياسية والامنية التي ستعتمدها اميركا في سياق مخططها الرامي الى منع ايران من التواجد عسكرياً في سوريا ، ولاسيما في جنوبها . ذلك ان هذا الامر يهم "اسرائيل" مباشرةً والسعودية مداورةً .
- الترتيبات التي ترغب اميركا في اعتمادها لضمان مشاركة "اسرائيل" والسعودية ، كما روسيا وايران وتركيا بطبيعة الحال ، في المفاوضات الرامية الى ايجاد تسوية سياسية للحرب الدائرة في سوريا وعليها .
فوق ذلك ، لا يمكن فصل تصريحات ترامب وممارساته عن الحرب الباردة التي اندلعت مؤخراً بين دول الغرب الاطلسي من جهة وروسيا الاتحادية من جهة اخرى ، واقترنت بطرد عشرات الدبلوماسيين بين اطراف الصراع . فهل يعقل ان يبقى الصراع مضبوط الإيقاع ومحدود الاثر اذا ما تأكدت صحة الخبر الذي اوردته صحيفة اميركية عن ان ترامب قال لبوتن في آخر اتصال هاتفي بينهما : "اذا كنتَ تريد سباق تسلّحٍ ، فليكن"؟
كم هو صعب ومقلق وخطير ان يتصارع الكبار-وأحدهم نَزِق ومتهوّر–على حافة الهاوية.